«أحداث الوراق» بأعين أهالي الجزيرة.. تقرير
اعتاد أهالي جزيرة الوراق على الهدوء والسكينة، صبيحة كل يوم مع أول شعاع نور للشمس يستيقظ العاملون في الفلاحة ليحرثوا الأرض، فيما يعتمد شباب القرية على الخروج بعيدا عن الجزيرة لـ"تلقيط" رزقهم، إلا أن اليوم جاء مختلفا عن الأيام السابقة، إذ استيقظ النساء والأطفال والشيوخ على أصوات الجرارات وهي تشق الطريق بين الطرق غير الممهدة الأشبه بالمدقات لتبدأ حملة إزالة لمنازل الغلابة من أهالي الجزيرة.
قبل أيام كان أهالي الجزيرة يتناقلون "همسا" معلومات تفيد بدخول قوات الأمن لهدم عدد من المنازل إلا أنهم لم يعيروا الأمر اهتماما، وفضلوا ألا يستبقوا الأحداث وأن ينتظروا أيا من القيادات الأمنية أن يأتي ليقدم لهم عرضه لإخلاء المنازل مقابل المال أو قطعة أرض أخرى بعيدا عن مكان الإنشاءات.. إلا أن ذلك لم يحدث.
دقائق قليلة وتحولت الجزيرة الساكنة إلى خلية نحل يشوبها القلق والتوتر والخوف.. صراخ هنا وعويل هناك وخطوات متسارعة لشباب ونساء وشيوخ.. الجميع يقف أمام المنازل يتحصنون بها من غضب الحكومة، سالمين مستسلمين دون حربة أو سلاح، فقط قلة حيلة وألم يعتصر القلوب على شقى عمر سيضيع ويهدم حجرا تلو الآخر أمام أعينهم!
وبدا أن القرار قد اتُخذ مسبقًا.. واللحظة تنفيذية بحتة لا تقبل التفاوض.
ويروي الحاج محمد "أحد أهالي الجزيرة" لحظات الخوف والترقب التي تملكت الأهالي، إذ بدا أن خطة الحكومة تمثلت في تحويط الجزيرة من ثلاث جهات "معدية دمنهور ومعدية الجزارين ومعدية القللي" وبدأت القوات التنفيذية تحط أقدامها على اليابسة ليتجمهر الأهالي خوفا على منازلهم وأراضيهم وتبدأ الأصوات تتعالى والشد والجذب مع قوات الأمن، وفي الجانب الآخر بدأت المساجد في طلب احتشاد الأهالي أمام المعديات.
يوجد بيننا مخبرون.. هكذا يقول الحاج محمد: "كان سيد الطفشان – الضحية التي لقيت مصرعها في الاشتباكات – يقف في مقدمة الصفوف، وبدأت الاشتباكات سريعا ولم تدم طويلا لم تأخذ سوى نصف الساعة ليتلقى طلقة خرطوش أصابته في الرقبة ليلقى حتفه في توه. حسبما جاء في شهادة الأهالي.
على الجانب الآخر من الجزيرة، بالقرب من معدية "المؤسسة"، كانت أم كريم "أرملة وأم لثلاثة أطفال" ذهبت لشراء بعض احتياجات المنزل، تاركة أبنائها داخل منزلها، إلا أنه مع انتشار خبر وصول قوات الأمن داهمها الخوف على أبنائها القُصر، وذهبت مسرعة إلى منزلها لتجده كومة من الحجارة.
وبصوت مكتوم أصابه الحزن وتمكنت منه قلة الحيلة تروي "أم كريم" مأساتها بعد أن هُدم منزلها وباتت هي وأبناؤها بلا مأوى ينعموا في ظلاله من وهج الصيف: "احنا غلابة معندناش مصدر رزق ناكل منه، بشتغل في البيوت عشان أربي عيالي ومحلتيش غير البيت اللي سابه جوزي قبل ما يموت.. ليه الحكومة تيجي على الغلابة وتسيب أصحاب القصور؟!
أما السيدة "فتحية" في العقد السادس من عمرها، تعمل بائعة ذرة مشوي، تصرخ واغرورقت عيناها بالدموع، وتتساءل: "ليه يا حكومة تيجي على الغلابة، وتقولوا علينا إرهابيين، احنا ملناش غير في أكل العيش وبنجري على أطفال غلابة ورزق اليوم بيومه، احنا بنبني بيوتنا بالقسط، بيتي اللي اتهدم عليه أقساط، ادفع منين قسط بيت مهدوم، احنا الليلة دي هنام تحت الكوبري اللي بيقولوا هنهد بيوتكوا علشانه".
الحاجة فتحية تتكئ على عصا تتعكز عليها بعد أن تركها أبناؤها وحيدة دون مصدر رزق، توزع بسماتها على المارين أملا في أن يشتري أحدهم منها ما يوفر ثمن وجبة غداء، تستيقظ باكرًا كل صباح بحثا عن لقمة عيش تسد بها رمق الجوع، تنتحب على بقايا منزلها المهدوم وترفع يدها للسماء: "مالناش غيرك يا رب".