أحمد فوزي يكتُب: كيف يضحك الإسلاميون على «دقون الغرب»؟ ملف خاص
في التيارات الدينية، لن تجد شيئا أكثر وضوحا من الفروق الشاسعة بين ما يعتقدونه وما يعلنونه للناس؛ يتفاخرون بأن صفوفهم تضم الثوري والإصلاحي والليبرالي، وهي أفكار من الأساس غربية النشأة والمفاهيم، بل هي بعينها التي حُرّمت على المدنيين، ومن خلالها بات العلماني كافرا، والليبرالي رأسماليا، مصاصا لدماء الفقراء، والثوري عميلا ومتآمرا، الأمر الذي يطرح سؤالا: لماذا يروج الإسلاميون أنفسهم خلال خطابهم للغرب باتجاهات فكرية حديثة، ويصدرون في نفس الوقت مفاهيم مغلوطة للشارع المصري عن الليبرالية والتنوير والحداثة الغربية؟
كيف بدأت التصنيفات الفكرية بين الإسلاميين؟
قبل خمسة عقود من الآن لم يكن هناك تصنيفات فكرية حديثة في أوساط الإسلاميين، فقط في تراث القرن التاسع عشر، كان جمال الدين الأفغاني عالما ثوريا -وهو ليس إسلاميا بل عالم دين- وانتقل نفس اللون والفكر وإن كان بدرجة أقل إلى تلميذه الشيخ محمد عبده، الذي اتجه للتيار الإصلاحي بعد ذلك.
بدأت الظواهر الفكرية في الأوساط الإسلامية تتبلور منذ سقوط الخلافة الإسلامية مطلع القرن العشرين، ومن بعدها بدأ الصراع المرير لجماعة الإخوان مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر، والذي انتهى بعزلها عن العالم، ومن هنا تحولت فلسفة الإسلاميين من مقاومة ما يعرف في أدبياتهم بـ«إكراهات الواقع» إلى الجنوح للبراجماتية والتعاون الكامل مع السلطة.
ورغم المكاسب الكبيرة للإسلاميين من مهادنة السلطة والقوى الاجتماعية، إلا أن الفكر البراجماتي هذا، لم تتفق عليه أغلب التيارات الإسلامية وخرجت تيارات عدة متأثرة بأفكار سيد قطب، والتي حلت كرؤى شاملة محل المعايير الشرعية السائدة، لذا لم يكن غريبًا أن يشهد عام 1974 أول محاولة للإسلاميين لتنفيذ انقلاب عسكري، في القضية الشهيرة المعروفة بـ«الفنية العسكرية».
التداعيات التي تشكلت منذ السبعينات، وحالة الشد والجذب تركت نتائج عدة بين منظري ومفكري الأوساط الإسلامية، وبات هناك الثوري والسلفي والإصلاحي، وهناك من يعتبر كتاب المرشد الثاني للإخوان حسن الهضيبي «دعاة لا قضاة» أهم مؤشر تاريخي على الصراع بين الرؤي والأفكار، فبعد صدور الكتاب، هناك من رأى ضرورة الجنوح للدعوة والتسليم بعدم أحقية الإسلاميين في فرض تصوراتهم على المجتمع، بينما تطرفت طوائف أخرى، وطالبت بالدفع في طريق المواجهة مع السلطة، والشارع إن لزم الأمر لتطبيق الشريعة الإسلامية.
ظلت الأحداث التاريخية تشكل أفكار متباينة خلال الصراع بين الإسلاميين والسلطة والقوى المدنية المختلفة في المجتمع، حتى طالت الحركات الإسلامية نفسها تغيرات فكرية كبرى، في أعقاب اندلاع ثورة 25 يناير، وسيولة في اعتناق مبادئ ومرجعيات سياسية فضفاضة داخل الإسلاميين.
وكما صاحب التيار المدني تشوش كبير في تحديد بوصلة أفكاره وأهدافه وطرق تنفيذها، كان الصف الإسلامي على الخط، وأصابه نفس الداء من فوضى الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية المغلفة بإطارات دينية، لدرجة أن الإسلاميين أنفسهم احتاروا في وصف التيارات الدينية المناوئة لأفكارهم وباتوا يرددون نفس التصنيفات الإعلامية والبحثية التي تطلق على التكفيريين، والسلفيين الجهاديين.
وبعد سقوط الحكم الإخواني، وتخبط التيار الإسلامي وخسارته كل معاركه مع الدولة المصرية، نادي البعض بلفظ التحزب والتلون الدعوي بسبب الضربات القاضية التي تتعرض لها الحركة الإسلامية منذ نشأتها، والتي لم تفلح مرة واحدة في مواجهتها، وكان عاصم عبد الماجد، القيادي بالجماعة الإسلامية والهارب خارج البلاد على رأس الذين نادوا بضرورة تفكيك الجماعات الإسلامية، والعودة إلى صفوف المسلمين، وهي الدعوة التي سبق وطالب بها الشيخ عبد الحميد كشك في تسجيل نادر له، رافضا إعطاء أي شرعية لكافة الجماعات التي ترفع أهداف منفصلة عن الصف الإسلامي بأكمله.
أفكار الحداثية.. هل تطبق فعليا على أرض الواقع؟
الواقع وحده يكذب مزاعم اعتناق الإسلاميين لمذاهب فكرية حديثة في صفوفهم، فالأنظمة التقدمية العربية وإن كانت مشوهة التجربة والتطبيق؛ إلا أن الإسلاميين هم وحدهم الذين دخلوا في صراع وجودي معها، صحيح أنه كان هناك انحراف في مسارات هذه الأنظمة مما ساهم مع مرور الزمن في ظهور تطرف عقائدي للإسلاميين، ولكنه لم يكن أبدا الفاعل الرئيسي ولا يمكن تحميله المسئولية عن لجوء الحركات الدينية للعنف والانقلاب على الآليات الديمقراطية، بدليل أن هناك طوائف أخرى في المجتمع، فضلت النضال السلمي من أجل إعادة البلدان العربية إلى مربع الاعتدال والحداثة، وناهضت السلطة والإسلاميين فكريا ووفق آليات سياسية لا يجرمها القانون والمجتمع.
حارب التيار الإسلامي عموما، والجهادي والسلفي خاصة، أي محاولة لإرساء قواعد الدولة الحديثة في بلاد المسلمين، واستطاع التيار الديني بجدارة يحسد عليها جر المنطقة بأكملها لاستقطاب أيديولوجي حاد، مع القوميين والعروبيين واليساريين والليبراليين.
كانت بصمات العنف الديني للإسلاميين واضحة في كافة البلدان العربية والإسلامية، ولم تسلم منها حتى المملكة العربية السعودية، التي تغوص في مستنقع صراع حاد مع مجموعات متطرفة، حاولت مرارا السيطرة عبر العنف المسلح على «بيت الله» تمهيدا للإمساك بالسلطة بأكملها، وكادت أن تنجح إحدى محاولاتها في تنفيذ مأربها، بعدما سيطرت مجموعة مسلحة فعليا على المسجد الحرام بمكة عام 1979، ومنذ ذلك الحين والهجمات القاتلة تتجدد من وقت لآخر.
الإسلاميون في معظمهم حركات رافضة للواقع؛ ونسبة كبيرة منهم مجموعات إقصائية، ترفض الآخر من الأساس، ومنهم من يكفر النخب الحاكمة والمجتمع وفقا للعقيدة الجهادية التكفيرية، وحتى الحركات الإصلاحية لا تكف عن محاولات إشاعة صورة مغالطة عن طبيعة الأنظمة الحاكمة في أعتى الأنظمة الديمقراطية، فالحياة بالنسبة للجماعات الإسلامية، ما هي إلا سلسلة مقايضات مستمرة، ومن خلفها إما تأكل بمفردها أو تُؤكل وتنتهي سيرتها للأبد.
يرى إبراهيم ربيع، الخبير في شئون الجماعات الإسلامية – القيادي الإخواني السابق، أن الانتهازية طريق آمن للحركات الإسلامية، موضحا أنهم يستنشقون العنف، وأغلبهم يسعى لتدمير بنية الوطن الثقافية والتاريخية وطمس الهوية الوطنية.
ويؤكد ربيع أن الجماعات الدينية لا تعرف منطق الخصومة السياسية، هي فقط في رأيه تحترف كل ما هو خارج على القانون، لافتا إلى أن التعامل الفعال الوحيد والأصلح معها أن يتم معاملتها وفق هذا المنطلق وحده دون غيره.