البريد وأمثاله!
بقلم: العميد محمد سمير
في سنة 1973، زار الرئيس الزائيري وقتذاك (الجنرال موبوتو سي سي سيكو) موريتانيا لمدة ثلاثة أيام، وحينها كانت موريتانيا من أفقر بلدان القارة الأفريقية، واقتصادها يعتمد على صيد الأسماك والزراعة والرعي.
وأثناء المباحثات في الأيام الثلاثة، لاحظ الرئيس الزائيري أن مضيفه الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه (أول رئيس لموريتانيا بعد استقلالها من الاحتلال الفرنسي) لم يغير بدلته طيلة اللقاءات في الأيام الثلاثة، فأدرك موبوتو أن مضيفه لا يملك المال الكافي لشراء الأزياء الأنيقة، باهظة الثمن.
وعند اختتام الزيارة، وفي صالة المغادرة في مطار نواكشوط، سلم الرئيس الزائيري شيك بمبلغ 5 ملايين دولار لسكرتير الرئيس الموريتاني منعًا للحرج، وأرفق مع الشيك ورقة فيها عناوين أشهر مصممي دور الأزياء في العاصمة الفرنسية باريس حيث كان موبوتو تصنع بدلاته، وكان يأمل أن تصنع للرئيس المختار ولد داداه هناك بدلاته الرسمية وتوابعها.
بعد مغادرة الرئيس الزائيري سلم السكرتير الرئيس الموريتاني ذلك الشيك قائلًا:
إنها هدية من الرئيس موبوتو لكم يا سيدي مخصصة لشراء بدلات رسمية ولوازمها من باريس.
فأخذ الرئيس ولد داداه الشيك وسلمه على الفور الى وزير المالية وأمره بأن يضع المبلغ في حساب الدولة.
وبعد ذلك امر الرئيس ان تجهز بهذا المبلغ المدرسة العليا لإعداد المعلمين في موريتانيا، حيث كانت موريتانيا تعاني من نقص شديد في هذا المجال، بسب الفقر و ضعف الموارد.
وبعد مرور خمس سنوات، أي (في عام 1978) توقف الرئيس الزائيري في المغرب قادمًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت زيارته الى المغرب لمدة أسبوع، وحين علم ولد داداه بتوقفه في الرباط ؛ اتصل به ودعاه لزيارة موريتانيا، وترجاه أن يقبل الدعوة ولو بزيارة قصيرة فقبل الدعوة.
وفي الطريق من المطار إلى القصر الرئاسي لاحظ موبوتو وجود لافتات باللغة الفرنسية تزين الشوارع مكتوب عليها:
شكرًا زائير.. شكرًا موبوتو.. شكرًا على الهدية.
وقبل أن يصل الموكب الرئاسي إلى القصر توقف في مدرسة إعداد المعلمين والمعلمات، فترجل موبوتو من السيارة واستفسر من الرئيس الموريتاني بتعجب:
ما الهدية التي يشكرني عليها الشعب الموريتاني، وأنا لم اصل إلا قبل ساعة واحدة إلى نواكشوط؟!.. وحقيقة الامر أني لم أحمل هدايا معي ولم اكن مستعدًا لهذه الزيارة!!.
عندئذ ابتسم الرئيس الموريتاني وقال له:
هذه المدرسة هي هديتك القيمة، إنك قدمت مبلغ خمسة ملايين دولار قبل خمس سنوات فبنينا بها هذهِ المدرسة لإعداد المعلمين والمعلمات، حيث كان شعبنا بأمس الحاجة إلى المال كي يحارب الأمية والفقر، فعانقه موبوتو وقال له:
لو قدر أن يكون باقي الزعماء الأفارقة مثلك لاختفت الأمية واختفى الجهل ومات الفقر والتخلف.
فرد الرئيس الموريتاني قائلًا:
إن راتبي استلمه شهريا من خزانة الدولة فأنا لا اعمل بلا أجر، والشعب الموريتاني لهديتك أحوج، أما هندامي فيكون بخلاص شعبي من الجهل والفقر.. فبالعلم نقضي على الآفات والمعوقات المعرقلة لمسيرتنا.
تذكرت هذه القصة الحقيقية عن الرئيس الموريتاني الذي توفى عام 2003 "رحمه الله" عندما قرأت عن ملايين الجنيهات التى صرفها البريد المصرى هذا العام فى الإعلان التافه الذى نراه يوميًا على شاشات التلفزيون خلال هذا الشهر المبارك.. بالإضافة إلى أمثاله من إعلانات البنوك الحكومية وشركات الإتصالات التى لو جمعنا تكاليفها سيكون ناتجها رقمًا مدهشًا يفوق أى خيال.
وهنا يحضرنى السؤال الذى يجب أن نتفكر فيه بتدبر، وأن نجيب عليه بمنتهى الأمانة،خاصة فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها بلادنا:
ما هو الأجدى والأنفع وما هو الذى يتحتم أن تكون له الأولوية.. أن تنفق هذه الملايين بمثل هذا السفه.. أم أن تذهب هذه الملايين إلى قطاعات نعلم جميعًا أن الدولة فى أشد الحاجة إلي دعمها مثل التعليم والبحث العلمى؟!!.
حقيقى نحتاج إلى قيادات راشدة فى البنوك والبريد وشركات الإتصالات وما شابهها يفكرون بعقلية مثل عقلية الرئيس الموريتاني رحمه الله.. وليس قيادات لا تعرف ما هى الأولويات وما هو الصالح العام.
مصر يا سادة فى أمس الحاجة إلى أن تتخلى للأبد عن مثل هذا الأسلوب فى صرف الأموال، لأن الله لا يمكن أن يبارك أبدُا فى الإنفاق السفيه.
والله من وراء القصد.
نقلا عن: فيتو