ليسينغ…….احضر!
علياء خطاب
مركز حوار الأديان بالأزهر الشريف
سويعات قليلة تفصلنا عن توديع عام مضى واستقبال عام جديد. أجواء احتفالية تسود العالم شرقا وغربا وتمهد لإطلاق الألعاب والصواريخ النارية، ابتهاجا بحلول العام الجديد. لكني أشعر-كعادتي مع بداية كل عام- بأن حالة من الخجل تعتريني وتفسد علي بهجة الأجواء الاحتفالية وتسوقني لأن أتفاعل بصمت الرافض ودهشة المستنكر مع هذا السؤال الذي يُطرح كل عام: هل الاحتفال برأس السنة الجديدة حرام؟ وهل يحوز لنا نحن المسلمين أن نقدم التهنئة للمسيحيين في أعيادهم؟ سؤال يتكرر كل عام وجدال يغزو في هذا التوقيت وسائط التواصل الاجتماعي عبر تيارات تقتحم تاريخنا الثقافي والاجتماعي والديني، تشوهه وتغلفه بالطائفية، تتحدث بنبرة استعلائية وبمفاهيم كلاسيكية خاطئة، تضرب سياجا من العزلة بيننا وبين المسيحيين وتقصيهم وتقصينا عن أواصر الأخوة الإنسانية، ومفاهيم المواطنة المصرية.
ثمة مشكلة كبيرة تعرضت لها سيدة مسيحية من دولة أوروبية، متزوجة من مصري مسلم ولديها ابنة في بداية العقد الثاني من عمرها؛ عادت الابنة منذ أيام تبكي لأمها بمرارة وتخبرها بأن زميلااتها في المدرسة أخبرنها بأن أمها كافرة وبأن علاقتها بها لن تتجاوز الدنيا إلى الآخرة، فهي مخلدة في النار لا مفر لها ولا ملجأ. استغاثت بي السيدة كي أعينها على تخفيف الوجع الذي أرَّق فتاتها، ووضعها في موضع المذنب المدان المغضوب عليه أمامها، وهي الأم والموجه والقدوة. استدعيت من الذاكرة مقولة الإخواني الإرهابي وجدي غنيم" إن المسيحيين كفار لا يجوز تهنئتهم بمناسباتهم الدينية".ومقولات المنتسبين إلى المدرسة الوهابية المؤسسة للفكر الإقصائي المتطرف والرحم الذي خرجت منه السلفية الجهادية المستبيحة لدماء الأبرياء وحرمتهم البشرية. جمعتُ المشهدَ كلَه في سلة واحدة؛ سلة باتت معروفة لنا جميعا بسقم فكرها، وضبابية منهجها، الداعي إلى نبذ الغير واغتياله معنويا وجسديا. هؤلاء وغيرهم ممن لا يعترفون بخصوصية الاعتقاد ولا يحترمون قناعات المختلف ولا يخجلون من المساس بمقدساتهم وأرواحهم؛ ينصبون أنفسهم آلهة تثيب وتعاقب، تصنف وتكفر.
والحقيقة أنهم حين حرموا تهنئة غير المسلمين بأعيادهم وحاولوا إفساد علاقة الفتاة الصغيرة بأمها غير المسلمة، فعلوا ذلك عن جهل مستحكم بالأساس الفكري لتسامح المسلمين مع ذوي الديانات الأخرى؛ هذا الأساس الذي يستند أولا إلى إقرار كرامة الإنسان واحترامه أيا كان دينه أو لونه أو جنسه، وإلى اليقين بأن مشيئة الله وسنته في جعل الناس مختلفين لا راد لها ولا معقب، وأننا لا نملك إجبار أحد على تغيير معتقده. مشاهد عدة يحفل بها تاريخنا الإسلامي، توثق كل ما سبق وتؤكد على إعلاء مبدأ الأخوة الإنسانية فوق كل اختلاف، باعتباره القاسم المشترك المعتبر في كل الأديان.
ما أحوجنا الآن لإقامة علاقات واقعية صادقة، تكسر الحاجز النفسي ونوازع الأنا الضيقة، تنسف الممارسات اللاغية للآخر والمحقرة لكينونته! لن يتأتى لنا ذلك إلا بكلمة سواء، حقلها هو العقل المحاور الذي يقر بمضامين احترام حرية الآخر في الاعتقاد، والتسليم بحتمية التعدد وفضله في الثراء الحضاري للأمم والشعوب.
كيف يمكننا أن نقتلع جذور تلك الأيدلوجيات الكارهة للحياة والمعطلة لثقافة التعايش مع المختلف؟ وكيف يمكننا أن نفرض واقعا جديدا يأخذنا بعيدا عن النقاشات والجدالات العقيمة؛ واقع تتعايش فيه الأديان ويتقارب فيه أتباعها دون تمييز أو تعصب أو كراهية؟
مَن القادر إذا على تغيير الصورة النمطية للآخر والأحكام المسبقة عنه؟ هل الخطاب الديني وحده؟ بالطبع لا، لم يعد الفكر الديني هو الرافد الوحيد القوي الذي نستقي منه معارفنا الدينية وقيمنا المجتمعية؛ أدوات كثيرة فاعلة تزاحم الدين في تلك المهمة وتبسط سلطانها عليه؛ من بينها لغة الإعلام ولغة الفن والأدب. كلهم مجتمعون يستطيعون أن يصلوا بنا إلى أملنا المنشود، والمنتج الأدبي الإنساني-بالتحديد- في ماضيه وحاضره قادر على تشكيل وعي إنساني عميق وشامل ومؤثر، يمكنه تصوير الظواهر الإنسانية بمنأى عن الرؤى الأحادية.
لم أجد مثالا أسوقه هنا وأنا أبحث عن معالجة لقضية التعامل مع المختلف دينيا عبر لغة الأدب أفضل من رائعة الأديب التنويري الألماني ليسينغ، ممثلة في مسرحيته <<ناتان الحكيم>>. كم تمنيت أن أجد هذا العمل الأدبي الإنساني متصدرا بروموهات عروضنا المسرحية في المسارح القومية وغيرها، وكم حلمت بأن يقرأ صغارنا تلك القصة المسرحية بما فيها من رموز وفلسفات ليست عصية على الفهم، لأنها تمس حالة صحية تألفها النفس وترنو إلى تحصيلها وتدفعنا طائعين للتخلي عن الأحقاد والضغينة والكراهية والنزعة لإقصاء الآخر والقضاء عليه.
أجاب ليسينغ في مسرحيته على السؤال الأكثر تعقيدا، من خلال إجابة اليهودي ناتان الحكيم على سؤال صلاح الدين الأيوبي: ما هو الدين الصحيح؟ يحسم ناتان القضية، حين أحالها إلى قصة الخواتم الثلاثة غير منحاز لدين دون آخر؛ كل منا لديه خاتمه ويتصور أنه يمتلك الأصل وما عاداه تقليد، لدى كل منا يقين أنه وحده هو الذي يملك الحقيقة المطلقة؛ لكنها قناعة يحتفظ بها كل منا في خاتمه دون أن يتعرض لخاتم الآخر بالتحقير أو التشويه. إجابة مريحة وتصوير حكيم، يصلح أن تكون ردا على ادعاءات المؤدلجين دينيا، وقولا فصلا يغلق باب التنطع فيي وجوههم.
كون ليسينغ أوروبي مسيحي لم يمنعه من أن يتحدث عن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي بكل الصفات الطيبة؛ فهو حاكم مسلم متسامح وكريم وعادل، استطاع أن يؤاخي بين أتباع الديانات الثلاث في بلاد المقدس وساوى بين فقرائهم في توزيع الهبات، وحمى دور العبادة دون تمييز أو اضطهاد. استطاع ليسينغ -الذي لم يزر الشرق يوما- أن يحسن صورة الشرقيين لدى الغربيين واستطاع أن يزيل في رائعته الأدبية صفة البربرية التي كانت تلصقها أوروبا بالمسلمين آنذاك، فصلاح الدين الأيوبي القائد الإسلامي العظيم حاور اليهودي وانبهر بجوابه، واقترض منه مالا كان بحاجة ملحة إليه، وهو نفسه من عفا عن فارس المعبد المسيحي ومد يد العون له.
صاغ ليسينغ- دراماتورجي الإنسانية- نصا أدبيا في القرن الثامن عشر يتناول فيه قضية تعدد الأديان والصراع بين أتباعها، وصور من خلاله كيف اجتمعت الأديان وتعايشت في بلاد المقدس في ظل حكم قائد مسلم عادل لا يقصي أحدا ولا يزدري دينا. ما أحوجنا ونحن في القرن الواحد والعشرين إلى هذا المذهب الإنساني الرائع المتسق مع مبادئ ديننا السمح الذي يحتم علينا أن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وأن نشكل بتنوعنا وتفاوت قدراتنا لوحة جميلة من الفسيفساء، تتلاحم في نسق إنساني متلاحم ومتكامل متجاوزة التعصب والتمييز