أصل الحكاية (3)
بقلم: محمد سمير
سعدت للغاية بردود الأفعال شديدة الإيجابية التى وردت لى من العديد من شباب وشابات مصر الأعزاء تعليقاً على ما كتبته من توثيق دقيق فى المقالين السابقين عن أصل جوهر وطبيعة تاريخ الصراع العربى- الإسرائيلى، وطلب معظمهم أن ألقى الضوء بالتفصيل على الجهود السياسية التى بذلتها الدولة المصرية خلال الفترة التى تلت العدوان الإسرائيلى عام 1967 حتى قيام حرب أكتوبر 1973.. وقد جاء مطلبهم هذا بناء على العبارة التى أنهيت بها مقالى السابق والتى ذكرت فيها أن حرب أكتوبر كانت الشرط الذى لا غنى عنه لتحقيق السلام.
واسمحوا لى أن أطلق على تلك الفترة اسم «السلام بالحرب».. وذلك نظراً لفشل جميع الجهود الدبلوماسية التى بذلتها مصر والمجتمع الدولى طوال تلك الفترة لإقناع إسرائيل بحتمية الانسحاب السلمى من جميع الأراضى التى احتلتها بالعدوان عام 1967.
فبانتهاء الجولة العربية- الإسرائيلية الثالثة فى يونيو 1967، ظنت إسرائيل أنها الحرب التى أنهت جميع الحروب، والنصر الذى أزال جميع المآزق، وأن العرب لم يبق أمامهم إلا الاستسلام.. إلا أن العرب كان لهم رأى آخر.. فما إن توقفت النيران حتى راحت الدول العربية تبذل جهوداً سياسية ودبلوماسية واسعة وحثيثة لرفض العدوان، وتهيئة الظروف المواتية لإرساء قواعد سلام عادل ودائم فى الشرق الأوسط.. وصاحب هذه الجهود عدة محاولات لإيجاد تسوية للنزاع العربى- الإسرائيلى قام بها المجتمع الدولى عامةً، والقوى الكبرى خاصةً، وذلك بالتعاون مع جميع الدول العربية.. خاصةً جمهورية مصر العربية.
وتحطمت كل هذه الجهود وتلك المحاولات على صخرة الرفض والتعنت الإسرائيلى، وظهر جلياً أن ما يحتويه قاموس إسرائيل من مفاهيم لا يخرج عن العدوان.. والتوسع.. واغتصاب الحقوق.. وفرض الأمر الواقع بكل ما يحمله من ظلم وإجحاف.. والاستهانة بالرأى العام العالمى.. وازدراء المنظمات الدولية.. واستبان لكل منصف أنه لا بديل للعرب عن خوض غمار الحرب ليحققوا السلام العادل المنشود.
لقد كان من المستطاع أن يحقق القرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن فى 22 نوفمبر 1967 تسوية مقبولة لمشكلة الشرق الأوسط، وأن يرسى دعائم سلام عادل فى المنطقة.. ولكن إسرائيل والقوى المساندة لها عملت بكل ما فى وسعها من جهد لعرقلة تنفيذ القرار ثم تجميده.
وكان القرار يقوم على دعامتين أساسيتين هما:
1- عدم شرعية الاستيلاء على الأراضى بواسطة الحرب.
2- ضرورة العمل من أجل سلام عادل ودائم، تستطيع كل دولة من دول المنطقة أن تعيش فيه بأمان.
ويستطرد القرار فينص على سحب القوات الإسرائيلية من الأراضى التى احتلتها فى عدوان 1967، كما ينص على إنهاء حالة الحرب والعيش فى سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، ويورد القرار كذلك ترتيبات معينة للملاحة فى الممرات البحرية، وتسوية مشكلة اللاجئين، وضمان السيادة الإقليمية لدول المنطقة، وتعيين ممثل خاص للسكرتير العام للأمم المتحدة يجرى اتصالات مع الدول المعنية للوصول إلى اتفاق مقبول.
ومنذ صدر القرار وإسرائيل لا تتوقف عن وضع العراقيل فى طريق تنفيذه، وتتذرع بالإبهام والغموض الذى يشوب تلك الفقرة فى النص الإنجليزى القائلة: «بسحب القوات الإسرائيلية من أراض احتلتها»، لتبرر بقاءها فى الأراضى العربية المحتلة.. رغم أن بطلان هذا الزعم الذى تستند إليه إسرائيل تؤكده نفس مقدمة القرار، إذ تنص على عدم جواز الاستيلاء على الأراضى عن طريق الحرب.
ثم قام السكرتير العام للأمم المتحدة بتعيين السفير (جونار يارنج) ممثلاً خاصاً له فى الشرق الأوسط، لمداومة الاتصال مع الدول المعنية بهدف تشجيع الاتفاق، والمساعدة بجهوده للتوصل إلى تسوية سلمية مقبولة طبقاً للنصوص والمبادئ الواردة فى القرار رقم 242.
وقدم «يارنج» تقاريره إلى مجلس الأمن عن مهمته، واتضح منها أن إسرائيل اتخذت، منذ الوهلة الأولى، موقفاً خاصاً يقوم على أن التوصل إلى حل للأزمة لا يمكن أن يتم إلا من خلال «المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية»، وأن قواتها لن تنسحب من الأراضى المحتلة قبل التوصل إلى حل تقبله إسرائيل، كما اقترح وزير خارجيتها برنامج عمل للمفاوضات المباشرة مع العرب.
ورفضت إسرائيل إعطاء السفير «يارنج» تصريحاً يؤكد استعدادها لتنفيذ قرار مجلس الأمن، متذرعة بأن هذا القرار لا يخرج عن كونه مجرد إطار للاتفاق، وأنه يستحيل تنفيذه دون مفاوضات مباشرة.
وفى المرحلة الثانية من مهمة السفير «يارنج» أكدت إسرائيل موقفها السابق بالنسبة لتفسير قرار مجلس الأمن، وأصرت على أن الانسحاب يجب أن يتبع الاتفاق بين الأطراف على حدود آمنة، على حين رأت مصر أن القرار يتضمن خطة لتسوية النزاع يتعين على الأطراف تنفيذها طبقاً لإجراءات يضعها الممثل الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة.
وأخيراً، وفى المرحلة الثالثة التى تميزت بمطالبة الأطراف بالالتزام- عن طريق مذكرة رسمية مكتوبة- بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، وبعد قبول الأطراف مبادرة روجرز، حاولت إسرائيل عرقلة المحادثات، فامتنعت عنها لمدة أربعة أشهر.. وعندما استؤنفت الاتصالات، وقدم السفير «يارنج» مذكرته فى فبراير 1971 طالباً من الأطراف المعنية تقديم بعض الالتزامات مقدماً، على أن تكون متبادلة، وافقت مصر على هذه الالتزامات، على حين جاء رد إسرائيل فى شكل تعليق على مذكرة مصر، ولم تتعرض للالتزامات المطلوبة منها من قريب أو بعيد.. بل ظلت تصر على عدم الانسحاب إلى حدود يونيو 1976.
وبهذا الموقف المتعنت، ورغم النداء الذى وجهه السكرتير العام للأمم المتحدة إلى إسرائيل لكى ترد إيجابياً على مذكرة السفير «يارنج»، ورغم صدور عدة قرارات للجمعية العامة تناشد السكرتير العام اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنشيط مهمة الممثل الخاص، فقد تمسكت إسرائيل بعنادها، واستمرت فى الامتناع عن الرد على السفير «يارنج»، كما رفضت الإعلان عن استعدادها لتنفيذ قرار مجلس الأمن، معتمدة فى ذلك على مؤازرة الولايات المتحدة الأمريكية لها بلا حدود.
ثم تلت ذلك جهود دبلوماسية عديدة لمحاولة التوصل إلى تسوية سلمية مع إسرائيل، وهى على الترتيب (المحادثات الرباعية- المحادثات الثنائية- مبادرة روجرز- مبادرة السادات- دعوة مصر لعقد دورة طارئة لمجلس الأمن فى يونيو 1973).. ولكنها جميعاً باءت بالفشل، وهو ما أكد أنه لا مفر من حتمية استخدام العمل العسكرى لكسر الجمود الذى أحاط بالقضية، والتوصل بعدها إلى تسوية سياسية عادلة للنزاع.
نقلاً عن المصري اليوم