راديو

رئيس مجلس الإدارة
منال أيوب

رئيس التحرير
محمد الاصمعي

نسخة تجريبية

الإرهاب الفكري والمعنوي .. من "سقراط" لـ "ابن رشد" التفكير .. هو الممارسة الطبيعية لكل البشر بغض النظر عن المرتبة الاجتماعية

 

Snap 2014-09-17 at 19.54.05

 

د / مني أبو سنة

 

 

تتناول هذه المقالة ظاهرة الدوجماطيقية التي تتخذ شكل الإرهاب فتصبح مهددة للديموقراطية في مجال الفلسفة. وتعتبر كل من حالة سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد في إطار الثقافة اليونانية، وابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي في إطار الثقافة الإسلامية تمثيلا لضحايا إرهاب الدوجماطيقية بسبب عدم قدرة هاتين الثقافتين على رفع التناقض بين الفلسفة والديموقراطية.
في محاورة "الدفاع" لأفلاطون، وطبقا لرواية ديوجينس اللائرثي، فإن نص الاتهام الموجه ضد سقراط كان على النحو الآتي: " إن هذا الاتهام الذي أقسم على صحته ميلتوس ابن ميلتوس البتوهوسي، ضد سقراط ابن صفر ونسكوس هو كالآتي: إن سقراط مذنب لأنه ينكر الآلهة التي تعترف بها الدولة ويدعو إلى ألهة جديدة، ثم هو مذنب أيضا لأنه يفسد الشباب. والإعدام هو العقوبة المطلوبة.
وهذا الاتهام يتضمن ثلاث تهم ضد سقراط
ـ لا يعترف بآلهة الدولة.
ـ يدعو إلى آلهة جديدة.
ـ يبشر بهذه الآلهة الجديدة للشباب، ومن ثم يفسدهم.
وإذا فحصنا الاتهامات الثلاثة تهمة تهمة فيمكن معرفة كنه كل تهمة، التهمة الأولى مزدوجة، إذ هي دينية سياسية ومرادفة للإلحاد، والتهمة الثانية محملة بالإلحاد مثل سابقتها وتشير إلى الاعتقاد والمعرفة في مجال الدين والفلسفة، والتهمة الثالثة من طبيعة اجتماعية سياسية.
ونخلص من ذلك إلى أن السمة السائدة في هذه الاتهامات الثلاث هي سياسية –فلسفية – دينية، وهي في جملتها ملحدة. وهنا يمكن إثارة السؤال الآتي: كيف أمكن للمجتمع الأثيني المشهور بديموقراطيته وفلسفته التي هي، في صميمها، البحث في المعرفة أن يتهم فيلسوف مثل سقراط بأنه ملحد بدعوى ممارسته للفلسفة؟
ومع ذلك يمكن رفع هذا التناقض في ضوء أن اتهام الفلاسفة والعلماء بالإلحاد وبالذات الفلاسفة الطبيعيين والشكاك مسألة طبيعية في أثينا حيث وجدت محاكم لمحاكمة أمثال هؤلاء الملاحدة. وكانت هذه المحاكم تسمى .Heliaia
والسؤال إذاً: كيف يمكن للفلسفة في الثقافة الأثينية أن تكون موضع اتهام؟ ومن هو المسئول عن هذا الاتهام؟
جواب هذا السؤال يستلزم تحليل الثلاثة اتهامات من أجل البحث عن جوهر هذا الاتهام، الاتهام الأول والأساسي الذي ينكر الآلهة التي تعترف بها الدولة مرتبط بالاتهام الثاني، وهو الدعوة لآلهة جديدة. وهذان الإتهامان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالاتهام الثالث، وهو إفساد الشباب. ويمكن أن نضيف عن يقين أن الاتهام الثالث لازم لتدعيم الإتهامين الآخرين لأنه ليس ثمة قانون يجرم إفساد الشباب. وقد أصاب ميلتوس القول في أن الاتهام الثالث ينطوي على دعوة سقراط الإلحادية. ويلزم من ذلك أن الاتهامين الأول والثاني هما الاتهامان الحقيقيان الموجهان ضد سقراط والثالث إنما هو نتيجة مستخلصة من الاتهامين الآخرين.
ومن هنا يمكن اختزال الاتهامات الثلاثة في اتهام واحد وهو إنكار آلهة الدولة. وتأسيساً على ذلك، يمكن بحث الطابع السياسي للآلهة من أجل بيان العلاقة بين الفلسفة والسياسة في المجتمع الأثيني، وهذا من شأنه أن يفضي بنا إلى بحث مسألة الديموقراطية، في محاورة "الدفاع" لأفلاطون يوجه سقراط سؤالاً إلى ميلتوس ليستوضح منه كيف يفسد الشباب: بأي معنى تقول أنني أفسد الشباب؟ هل من الواضح طبقا لعريضة الاتهام أنني أحث الشباب على عدم الاعتراف بآلهة الدولة من أجل الدعوة إلى آلهة جديدة. أليس معنى ذلك أنني بهذه الطريقة أفسد الشباب.
وهنا يجيب ميلتوس بالإيجاب، إن هذا الاتهام يشير، إلى الاعتقاد والمعرفة. إن سقراط كان يعلم الشباب فن توضيح الأفكار من خلال الحوار الذي هو جوهر الفلسفة، ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن سقراط كان يريد غرس الإبستمولوجيا في عقل رجل الشارع، وهو بذلك يدفعه إلى أن يميز بين المعرفة الكاذبة (الظنية) التي يدعو إليها شعراء الدولة والمعرفة التي تأتي من الباطن، أي من العقل، والتي نصل إليها بممارسة فن الحوار الفلسفي.
وعندما تدمج المعرفة في النسق السباسي للدولة فإن سقراط يدخل الفلسفة في السياسة، أو بالأدق في النسق السياسي الأثيني الذي هو الديموقراطية.
والسؤال اذاً: ما هو جوهر الديموقراطية؟
إن سقراط لا يعرف الديموقراطية وإنما نحن نستخلص هذا التعريف من طبيعة الإتهامين الأول والثاني، حيث يوجهما نحو المجتمع الأثيني. يقول: " إن سقراط يخطيء عندما يستهويه البحث في الأشياء الموجودة على الأرض وفي السماء وعندما يجعل من الحجة الضعيفة حجة قوية، وعندما يعلم الآخرين كل هذه الأمور".
ومن البين أن عبارات سقراط هذه تشير إلى أن الاتهامات الموجهة إليه تمثل جوهر الفلسفة، وهي التفلسف حول الكون. ومن هذه الزاوية يقترب سقراط من الطبيعيين الأوائل الذين كانت مهمتهم استبعاد الأساطير من الظواهر الطبيعية. وكان هذا الاتهام معاد للجماهير، وبالتالي أثار حفيظتهم ضد الفلسفة والعلم. وقد أسهمت الدولة في هذه الإثارة للمحافظة على سلطتها، وذلك بالاستعانة بالدوجماطيقين من أمثال ميلتوس.
وفي العلم اليوناني فإن جذور العالم الطبيعي أو بالأدق المبادىء الأولى على حد تعبير أرسطو لم تعد آلهة، وقد حاول الطبيعيون الأوائل تفسير ظواهر الكون بأحد العناصر الأربعة، التراب والهواء والماء والنار أو بأكثر من عنصر، فالشمس لم تعد عربة أبللو التي تعبر السماء.. إنها السحب الحارقة والأحجار الساخنة, وهكذا حلت هذه العناصر محل الآلهة وكان من الميسور على الفلاسفة نقد المفاهيم التقليدية عن الآلهة ليس فقط من أجل إحلال التفسير الطبيعي محل الآلهة، ولكن ببيان التناقض في التفسيرات التقليدية.
وقد أثرت الدراما في المجتمع الأثيني تأثيراً ملحوظاً في إشاعة اتجاهات الدولة من أجل إحداث التأثير السلبي في عقل الجماهير كما تفعل الآن وسائل الإعلام, إنها تحض الجماهير على كراهية الفلاسفة الطبيعيين والشكاك والعلماء، وقد مهدت مسرحية "السحب" لأرستوفانس لتوجيه الاتهام لسقراط.
ففي روايته كانت الشخصية الرئيسية "العالم" في "حانوت الفكر" حيث يجري التجارب فينكر الإله زيوس ويسخر منه. وعندما يرى المشاهد أن سقراط يهتم بأمور الأرض والسماء فإنه يخلص من ذلك إلى أن سقراط لا يعتقد في الآلهة.
ومن هذه الزاوية فإن الجماهير التي هي موضوع الديموقراطية هي حجر الزاوية في الصراع بين الدراما والفلسفة -أو بالأدق بين الديموقراطية الزائفة للدولة التي تعبر عن نفسها في الدراما – من جانب، الديموقراطية الحقيقية للفلسفة الكامنة في فلسفة سقراط .
وللتمييز بين الديموقراطية الزائفة و الديموقراطية الحقة يجب معرفة رأي سقراط في الديموقراطية، ولكي يبرأ سقراط من اتهامه بالإلحاد عند الجماهير فإنه ينتهي إلى أن الآلهة تأمره بالبحث عن رسالة إلهية من أجل العثور على الحقيقة. واستناداً الى ذلك يمكن معرفة رأي سقراط في الديموقراطية .
وهو أن يكون التفكير الفلسفي هو الممارسة الطبيعية لكل البشر بغض النظر عن المرتبة الإجتماعية، وأن هذه هي الرسالة الإلهية، ومن هنا يعرف سقراط الإنسان بأنه حيوان متفلسف؛ ومن ثم تكون الديموقراطية فلسفية وليست سياسية، ومن ثم تكون السياسة تابعة للفلسفة وليس العكس، وهذه الفكرة قد عبر عنها أفلاطون بفكرة "الفيلسوف الملك" التي هي ثمرة محاكمة سقراط، والتي كانت دليلاً على العلاقة الحميمة بين الفلسفة والسياسة مع بيان أن السياسة وليدة الفلسفة.
ولهذا يمكن القول بأن الديمقراطية ليست مجرد حكومة يشاركها ممثلون عن الشعب؛ أي ديمقراطية برلمانية لأن مثل هذه الديمقراطية هي ديمقراطية مزيفة في رأي سقراط لأن الجماهير التي تكون في حالة ما قبل الفلسفة ليست في وضع يمكنها من إصدار أحكام سياسية أو خيارات سياسية، إن الجماهير في حاجة إلى أن تتدرب أولاً على التفلسف حتى يمكنها اتخاذ قرار باختيار معين، وكان هذا هو الذي يقوم به سقراط حتى يقود الجماهير إلى الديمقراطية الحقيقية مستعيناً في ذلك بالفلسفة.
وهكذا يكون سقراط شهيداً معبراً عما أسماه بركيس "بالقوانين غير المكتوبة" في المجتمع الأثيني، والتي يمكن تجاوزها بتعليم الفلسفة للجماهير. ومن باب السخرية فقد استهجن بركيس ما يسمى "بالوجدان العام" أو بالأدق الجماهير التي كان سقراط مصمماً على تعليمها وتدريبها على الديموقراطية الحقيقية.
إن محاكمة سقراط دليل واضح على انتصار الدوجماطيقية على الديمقراطية وعلى إدانة المجتمع الأثيني بسبب غياب حرية الفكر أو على حد تعبير "الحرية التي تسمح بالاستعمال العام للعقل"، والذي هو جوهر التنوير وبدونه تكون الديمقراطية مجرد وهم.
إن الصراع حول الديمقراطية في إطار الاستعمال العام للفلسفة حدث بعد مرور 17 قرناً في الثقافة العربية الإسلامية، وقد حدث هذا الصراع باسم ابن رشد ، ذلك مع ملاحظة أن ثمة فارقاً هائلاً بين حالة سقراط وحالة ابن رشد، وهو أن الديمقراطية لم تكن محور الصراع بين الفلسفة والدوجماطيقية لأنها لم تكن واردة في الثقافة العربية الإسلامية.
وعلى الرغم من أن الصراع كان دائراً حول الجماهير إلا أنه كان بين الفلسفة والدين أو بالأدق بين فلسفة ابن رشد و تأويل النص الديني الذي كفره علماء الكلام. ومع ذلك فإنه على الرغم من هذا الفارق بين حالة سقراط وحالة ابن رشد فإن ثمة تشابهاً بينهما فيما يختص بالبحث عن مشروعية التفلسف حول الإلوهية حيث يشير ابن رشد إلى نص قرآني يدعو فيه الله المؤمنين للبحث عن المعرفة في هذه الحياة الدنيا .
وكان مثل سقراط يستند إلى الدعم الإلهي، فقد أعلن سقراط أنه مدعوم بالآلهة في بحثه عن الحقيقة، وهذه الإستراتيجية المشتركة من قبل الفيلسوفين كانت لازمة لتبرير التفلسف، وذلك بسبب المناخ غير الصحي المحيط بالفلسفة في عصر كل منهما، والذي كان سائداً بمعونة السلطة السياسية في تعاونها مع القوى المحافظة التي دفعت الجماهير إلى شن حرب صليبية ضد الفلسفة.
إن المناخ الثقافي الذي أحاط بسقراط، والذي كان متفرغاً لاتهام الفلاسفة والعلماء بأنهم كفرة هو نفس المناخ الثقافي الذي أحاط بابن رشد واتهمه بالكفر، والذي كان قد أسسه الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، والذي صدر قبل كتاب ابن رشد بسبعين عاماً والمعنون "تهافت التهافت".
والسؤال الآن: كيف نربط بين هاتين الحالتين ــ سقراط وابن رشد ــ وبين الوضع الراهن للديمقراطية في إطار الكوكبية؟ إن الكوكبية تشير إلى وحدة كوكب الأرض بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية التي أنتجت مجتمع المعرفة. فقد أصبحت المعرفة العامل الرابع المضاف إلى عوامل الإنتاج الثلاثة: الأرض والعمل، ورأس المال، هذا مع ملاحظة أن إنتاج المعرفة يستلزم شرطاً مبدئيا،ً وهو الإبداع الذي يعني التفكير النقدي الحر بلا قيود أو محرمات، ومن ثم يمكن تناول القضايا التقليدية
مثل الفقر وانفجار السكان والتلوث، وكذلك القضايا المعاصرة مثل الإرهاب بحلول غير تقليدية

Login

Welcome! Login in to your account

Remember me Lost your password?

Don't have account. Register

Lost Password

Register