"السعودية الجديدة" تدشين أوبرا وأوركسترا .. "نيوم" رؤية اقتصادية .. 2030 مرحلة ما بعد النفط ..تقرير
– وضع خطة لإطلاق عدد من دور العرض السينمائى فى أنحاء المملكة وتوقيع بروتوكول مع فرنسا لتدشين أوبرا وأوركسترا
– ظهرت المرأة السعودية فى المدرجات وقاعات السينما وخلف مقود السيارة دون صدام مع المتشددين لإقرار هذه الحقوق
– مشروع «نيوم» رهان تنموى ونافذة استثمارية للإعلان عن الوجه الحضارى الجديد
– خلق حالة من التوازن بين سلطة هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والأطر القانونية فى المملكة
سار الشاب الذى لم يبلغ السادسة والعشرين فى ستين رجلا، من الكويت إلى الرياض، لانتزاع عاصمة الدولة السعودية من أميرها التابع لآل رشيد، حكام جبل شمر. كان الأمر يبدو مغامرة مجنونة وخائبة، لكن التاريخ يؤكد دائما أن الأمور المفصلية فى هذا العالم تصنعها المغامرات. وبالفعل نجح عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود فى انتزاع الرياض، واضعا النواة الأولى للدولة السعودية الثالثة. بين انتزاع الرياض فى يناير 1902، وإعلان تأسيس المملكة العربية السعودية فى سبتمبر 1932، خاض عبدالعزيز آل سعود معارك شرسة مع آل رشيد، ومع القبائل المتمرّدة على فكرة الدولة المركزية، بدأت الرحلة بالرياض والمناطق الواقعة جنوبها، ثم القصيم بعد ثلاث سنوات تقريبا، وصولا إلى إخضاع كامل أراضى نجد فى العام 1921، ليصبح الأمير الذى بدأ الرحلة شابا فى السادسة والعشرين سلطانا على نجد فى السابعة والأربعين، ومؤسِّسا للدولة الموحَّدة على كامل أراضى شبه الجزيرة العربية فى الثامنة والخمسين من عمره، وطوال هذه الرحلة استفاد من دروس الدولتين السعوديتين الأولى والثانية «الدرعية 1744/ 1818 – الرياض 1818/1891».
لم ينكفئ عبدالعزيز آل سعود على نفسه مكتفيا باستتباب الأمر فى عاصمته، ولم يراهن على ولاء القبائل المتبدّل تبعا للظروف، دون عمل جاد لتثبيت هذا الولاء، ولم يصرف نظره للأمور العسكرية متجاهلا الدوائر الاقتصادية والاجتماعية ودورها فى تدعيم سلطة الدولة. دعم الأمير موقفه بمزيد من الروابط والمصاهرة مع القبائل الكبرى المتحكمة فى خريطة نجد والحجاز، وأمسك بالمفاتيح الاقتصادية المهمة فى القصيم والأحساء وغيرهما، واشتغل على تعزيز موارد المملكة الوليدة دون اكتفاء بعوائد الزراعة والتجارة والحج، اكتمل له الأمر باكتشاف الثروة النفطية، ووضع مخططا مُحكما لدولة مركزية يُستبدل فيها الولاء للمؤسسات بالولاء للأفراد، كانت هذه التحركات مؤشرا واضحا على تجنب مصير الدولتين السابقتين، والانطلاق فى مسار ثابت ومحسوب. باختصار وعى الملك المؤسِّس أن دولة جديدة تحتاج تأسيسا جديدا، وأن الإصدار الثالث لا يمكن أن ينجح إذا لم يتخل عن ثغرات الإصدارين السابقين، وهذا بالضبط ما يفعله ولى العهد محمد بن سلمان الآن.
الدولة الثالثة والجيل الثالث
قضت شبه الجزيرة العربية قرونا عديدة فى طور الإمارات الصغيرة المتفرّقة، فبعد انتقال مركز الحكم من مكة والمدينة إلى دمشق وبغداد، وتبدّل الولاية من الخلافة الراشدة إلى الدولتين الأموية والعباسية، لم تتحقق فكرة الدولة المركزية الموحدة فى نجد والحجاز، لاحقا تعمّقت المشكلات والصراعات مع توسّع الدولة العثمانية وسيطرتها على المنطقة بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، لكن سوء الأوضاع تحت حكم العثمانيين أنعش فكرة البحث عن مظلة وطنية واسعة فى نجد، وأخذت الفكرة فى النمو حتى تحققت بتأسيس الدولة السعودية الأولى فى الدرعية سنة 1744، وبسبب تعقيدات السياسة والتهاب خريطة المنطقة سقطت هذه الدولة فى 1818 لتتأسس الدولة السعودية الثانية فى العام نفسه متخذة الرياض قاعدة للحكم، لكنها سقطت هى الأخرى بعد 73 سنة أمام هجمات آل رشيد المدعومة من الأتراك، قبل أن يستعيد عبدالعزيز آل سعود الرياض إيذانا بولادة الدولة السعودية الثالثة فى 1902، ونتيجة الخبرات المتراكمة، ونضج فكرة الدولة المركزية، نجح الملك عبدالعزيز فى توحيد شبه الجزيرة وإعلان المملكة العربية السعودية فى 23 سبتمبر 1932.
احتاجت فكرة الدولة المركزية الموحدة تجربتين متوسطتى النجاح وقرابة 188 سنة للتحقق. واحتاجت الفكرة بعد تحققها 86 سنة وجيلين من الحكام للنضج والثبات، فمنذ الانطلاق فى 1932 تعاقب على الحكم سبعة ملوك من جيلين، الأب عبدالعزيز آل سعود، والأبناء سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله وسلمان. وباستثناء الأخير فإنهم جميعا وُلدوا قبل التأسيس، وخلال هذه الحقبة الطويلة أُديرت المملكة فى الإطار التقليدى الذى وضعه المؤسّس، كدولة مركزية تتمتع فيها بعض الفئات بمزايا نسبية، وتستند سياسيا إلى بيعة عامة وولاء للملك، واقتصاديا إلى موارد وعوائد ريعية تحققها التجارة والنفط وخدمة المشاعر المقدسة. كان هذا التصور ضروريا لتثبيت دعائم الدولة وتنقيتها من شوائب الولاءات القبلية وما يتعلق بها من رؤى اقتصادية بدائية، تقايض السيادة والولاء لها بمكاسب ومزايا مباشرة. فى السنوات الأخيرة بدا أن المملكة استنفدت هذه المرحلة وحققت غاية ما ترجوه منها، وأنها فى حاجة لإصدار جديد للدولة الراسخة اقتصاديا وسياسيا، وبطبيعة الحال يحتاج الإصدار الجديد جيلا جديدا، يتوفر على طاقة أكبر لإنجاز مرحلة مغايرة، ويستجيب لخريطة جيوسياسية مختلفة للمنطقة، أنتجها تسارع الإيقاع فى العقود الأخيرة، والأهم أن تكون عقلية تربّت فى حاضنة الدولة الموحّدة، ولا تعلق فى ذاكرتها آثار حروب التأسيس وتبدل الولاءات.
روح الشاب وعقلية المؤسس
كانت بيعة محمد بن سلمان وليًّا للعهد بالمملكة العربية السعودية قبل أكثر من سنة، بمثابة انتقال ضرورى من الجيل الثانى إلى الجيل الثالث فى الأسرة السعودية، لكن هذا الانتقال لم يكن مجرد تحول شكلى وجسر للعبور بين جيلين مُختلفين فى العمر فقط، كان واضحا منذ اللحظة الأولى أنه تحول فكرى عميق، يمكن التماس حجم ما ينطوى عليه من تغيرات بالنظر إلى النشأة والسياقين الاجتماعى والثقافى. فالأمير المولود فى صيف العام 1985 لا يُمثل اقترابا عمريا وزمنيا فقط من السياق الراهن وتبدلات المجتمع العالمى. الخلفية القادم منها تبدو مختلفة عن مجتمع الأمراء التقليدى، فقبل بروز شخصية الأمير سلمان بن عبدالعزيز باختياره وزيرا للدفاع فى العام 2011، قضى الرجل أكثر من نصف القرن أميرا لمنطقة الرياض على فترتين، ولطبيعة العاصمة المنفتحة نسبيا، وحجم ما توفره لأميرها من فسحة فى الوقت والطاقة، أنفق الأمير سلمان- الذى أصبح ملكا فى يناير 2015 – قدرا كبيرا من طاقته فى تربية أبنائه، يبدو هذا واضحا بالنظر لشخصية الأمير سلطان بن سلمان الذى يُعد أول رائد فضاء عربى، أو الابن الأصغر محمد الذى يملك عقلية منفتحة وعصرية، رغم دراسته فى المملكة على غير المعتاد بين الأمراء وأفراد الأسرة المالكة، ويفسر هو نفسه هذا الأمر بما وفره له الوالد من كتب ومطبوعات، وما عاشه معه من نقاشات وحوارات. حسبما قال فى لقاء جمعه بنخبة من المثقفين والإعلاميين إبان زيارته لمصر فى مايو الماضى.
فى هذا اللقاء الذى احتضنه منزل السفير السعودى بالقاهرة، بدا الأمير محمد بن سلمان شخصا واسع الاطلاع والمعرفة، لديه مخزون كبير من القراءات المتنوعة، يفهم تعقيدات المنطقة وأطر الصراعات المحتدمة داخلها، والأهم أنه يملك رؤية عصرية مكتملة لواقع المملكة وآليات التحرك بها نحو إصدار اجتماعى واقتصادى وثقافى جديد.
كان هذا محتوى شهادات كثيرين ممن حضروا اللقاء، وكتبوا وتحدثوا عنه لاحقا، فيما يشبه الإجماع على امتلاك ولى العهد السعودى رؤية ناضجة فيما يخص السياق الداخلى، والأوضاع الإقليمية والدولية، والمسارات العاقلة للتفاعل مع هذه الدوائر أو مناورتها والاشتباك معها أحيانا.
فى المستوى العملى حضر محمد بن سلمان حضورا مبكرا وقويا فى المشهد السياسى السعودى، بدأ الأمر بتعيينه مستشارا ضمن هيئة خبراء مجلس الوزراء قبل أن يُكمل عامه الثانى والعشرين، وقتها لم يكن ممكنا الحديث عن استثناء أو محاباة بينما كان والده أميرا للرياض ولم يكن وزيرا ولا وليًّا للعهد، وخلال فترة حكم الملك عبدالله أصبح الأمير الشاب مستشارا ورئيسا لديوان ولى العهد، ومشرفا على مكتب وزير الدفاع، ووزير دولة بمجلس الوزراء السعودى. وتواصل تدرّجه الناعم وصولا إلى اختياره وليًّا لولى العهد فى 2015، ثم وليًّا للعهد عقب تنازل الأمير نايف فى صيف 2017. وبجانب ولاية العهد يشغل موقع نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، ورئاسة مجلسى الشؤون السياسية والأمنية، والشؤون الاقتصادية والتنمية.
فى رحلته العملية بين 2007 والآن، يبدو محمد بن سلمان أميرا بدرجة باحث عن المعرفة، وقائدا من الصفوف الخلفية، يعى الشاب الذى أكمل عامه الثانى والثلاثين قبل شهرين أن ولايته للعهد ربما تكون صنيعة الدم والرحم اللذين ينتمى إليهما، لكن جدارته بالولاية والعهد فى واقع متغير وسياق عالمى آخذ فى التسارع والتبدل، لا يمكن أن تتأسس إلا على وعى عميق بالدولة السعودية ومكوناتها، بما تملكه من طاقات وما تطمح إليه من إنجازات، والأهم من هذا الوعى بحاجة المملكة لإصدار ثالث يُجدّد شبابها، مثلما كانت الدولة الثالثة نفسها، التى أسسها جده عبدالعزيز قبل ست وثمانين سنة، تجديدا لشباب الدولتين السعوديتين فى الدرعية والرياض، يبدو محمد بن سلمان طوال الوقت مُخلصا لهذا التصور ومُتحرّكا فى إطاره، وكأنه مزاوجة بين التأسيس والهيكلة، أو وجه سياسى عصرى بروح الشباب وعقلية المؤسس.
رؤية السعودية 2030
فى الوقت الذى يلعب فيه النفط دور البطولة فى اقتصاد المملكة، تقطع الرؤية الناضجة بأن هذا الهيكل الاقتصادى يحتاج تدخلا تصحيحيا، فى ظل ما تملكه السعودية- بالمساحة الشاسعة والموارد الطبيعية والمزايا الجغرافية- من إمكانيات وفرص كبيرة. فى هذا الجانب يقف الأمير محمد بن سلمان منحازا لفكرة تحرير اقتصاد المملكة من سيطرة النفط، وفق رؤية ديناميكية للتعامل مع خريطة الإمكانات والفرص، كان هذا التصوّر البراجماتى المتطوّر واضحا بقوة مع دراسة فكرة طرح حصة من عملاق النفط العالمى «شركة أرامكو» للتداول فى البورصات العالمية، ثم اكتشاف أن هذا الطرح وفق الصيغة الحالية قد لا ينطوى على استغلال أمثل للموارد، فكان العدول عن هذا الأمر مؤقتا لصالح دراسة التوسع فى أنشطة البتروكيماويات والصناعات التحويلية، وتأسيس شركات فرعية تابعة لـ«أرامكو»، ومؤخرا دراسة استحوذها على شركة «سابك» العاملة فى مجال البتروكيماويات، تمهيدا لطرح %5 من أرامكو فى اكتتاب تبلغ قيمته 100 مليار دولار. جاءت هذه المراجعة رغبة فى تعظيم العوائد والقيمة المضافة من الصناعات المرتبطة بقطاع الطاقة، وبالدرجة ذاتها كانت تأكيدا لديناميكية الرؤية السعودية الجديدة وقدرتها على التقصى والبحث وتعديل المسار بوتيرة متسارعة. فى الوقت نفسه ترافقت مع هذه النظرة خطة اقتصادية واسعة لتأسيس حاضنات استثمارية وتنموية أخرى، تراهن على أنشطة ومشروعات تُقلّص حصة النفط ضمن الناتج القومى، لصالح الارتقاء بحصص الصناعة والطاقة المتجددة والسياحة والخدمات اللوجستية.