ظاهرة غريبة ومحيرة تنامت في بلادنا في السنوات الأخيرة، وهى أنه على الرغم من ازدياد وتعدد أجهزة ومستويات الرقابة الرسمية، بجميع درجاتها، وأنواعها، وتخصصاتها، إلا أنه ما زال هناك انتشار لا يمكن أن تخطئه أي عين للعديد من مظاهر الفساد، والإهمال، والظلم على جميع المستويات.

وبالطبع يمثل ذلك موضع تساؤل وغموض للعديد من المتابعين، عن السبب الحقيقى الذي يمكن أن يكون وراء هذا التنامى لهذه الظاهرة غير الحميدة، والتي تؤثر بكل تأكيد تأثيرًا سلبيًا مباشرًا على مجتمعنا في جميع المجالات.

وحقيقة الأمر أن الإجابة تتمثل في أننا فى الوقت الذى اهتممنا فيه اهتمامًا شديدًا بتنمية منظومة "الرقابة الخارجية" كمًا وكيفًا، أهملنا في المقابل الاهتمام بترسيخ دعائم وقواعد منظومة الرقابة الأهم، التي تبنى على أكتافها جميع الأمم المتقدمة أسباب صعودها للمكانة التي تستحقها، وهى منظومة "الرقابة الذاتية" المتمثلة في "الضمير الإنسانى".

نعم يا سادة.. ففى جميع الدول المتقدمة يمثل تواجد الأجهزة الرقابية عامل الردع للجزء القليل من المجتمع الذي لا يتمتع بالمستوى المأمول من الضمير الإنسانى، لأنهم يبذلون مع صغارهم كل الجهد والطاقة نحو زرع هذا الشعور الداخلى فيهم، منذ نعومة أظافرهم، لكى يصبح هذا الضمير في المستقبل هو عامل الرقابة الأساسى في حياتهم، لأنه يمثل حينئذ المؤسسة القانونية، والأخلاقية داخل كل فرد منهم، فيصبح بذلك هو السلاح الأقوى الذي يقودهم نحو تحقيق الرقابة الذاتية التي تجعل معظمهم يؤدون واجباتهم المهنية والاجتماعية على أكمل وجه، دون حاجة ملحة إلى وجود رقيب خارجى.

ويحضرنى فى هذا قول الكاتب العظيم عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله) عن الضمير حيث يقول:

"الضمير الحى قد تصيبه أحيانًا غاشية فيغفو قليلًا أو يتغافل، ولكنه لا يموت أبدًا، بل يستعيد عافيته بعد قليل، ويحاسب نفسه عن اختياراتها ويردها إلى الصواب"، ويقول الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية "توماس جفرسون" عن الضمير:

"كل ما يتطلبه الطغيان للوجود، هو بقاء ذوى الضمير الحى صامتين".

ويقول "فيكتور هوجو":

"الضمير هو حضور الله فى الإنسان".

إذًن.. فإذا أردنا حقًا مجتمعًا سليمًا فكريًا ومهنيًا وسلوكيًا، وإذا أردنا حقًا أن نقضى على الأسباب التى تؤدى إلى تفشى الفساد والإهمال والظلم، فلابد أن ندرك إدراكًا لا لبس فيه بأن الخطوة الأولى والأهم في ذلك هى أن نوقظ الضمائر من سباتها العميق، والسبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو أن نزرع فيها كل أسباب الخشية من الله، والحب الحقيقى للوطن، ولا يمكن أن يتم هذا الزرع إلا بالاهتمام الشديد بالتعليم والثقافة، وقيام المسئولين بتطبيق أعظم فضيلتين وهبهما الله جل وعلا لبنى الإنسان وهما فضيلتى: "الصدق  والعدل".

يا سادة.. بالتعليم والثقافة، والصدق والعدل.. تحيا الضمائر وتنهض وترتقى الأوطان.

نقلا عن فيتو