«رسالة الأمة الإسلامية العلم والهداية لا الإرهاب والخراب» .. نص كلمة مفتي الجمهورية أمام جامعة أكسفورد البريطانية
مفتي الجمهورية:
أخذت على عاتقي مسؤولية توضيح صحيح الإسلام وما يدور حوله الشرع من مميزات تتسم بالمرونة والتوافق مع أحوال الناس
– العالم الإسلامي نجح في إنشاء المؤسسات والهيئات العلمية التي لاقت شرعية مجتمعية
– يمكن للشريعة الإسلامية أن توفِّر نموذجًا حقيقيًّا يقوم على المصداقية والمعاصرة
– الاعتدال والسماحة والمرونة تنعكس بشكل وافٍ في المجامع العلمية الدينية كالأزهر الشريف
– نثق بمقدرة المؤسسة الدينية على التعبير عن الإسلام في مصر والعالم كله ويجب دعمها
– الأمة الإسلامية مستودع الإسلام ذاته.. وأمة علم وهداية لا الخراب والإرهاب
– منهج الأزهر حظي بمباركة إجماع الأمة على تتطاول القرون
– الأزهر قادر على متابعة التطورات الطارئة في حياة الشعوب.. ويدرك تغيرات الواقع العالمي
– التصريحات المتطرفة أبعد ما تكون عن المنهجية الصحيحة للإسلام وتعتمد التفرقة
– تكمن أهمية الأزهر في كونه المؤسسة التعليمية الكبرى في العالم وينضوي تحت رايته العديد من المؤسسات الدينية
– المصري متديِّن بطبعه ويتمتع بروحانية دينية عالية، ومن حقِّ كل مصري أن يفتخر بها
– لدينا أكثر من 120 ألف مسجد يعمل بها ما يربو على 80 ألف إمام جميعهم من خريجي الأزهر
– دار الإفتاء هي الصوت المرجعي لإصدار الفتاوى في مصر والعالم الإسلامي
قال الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إن هناك سمات تميزت بها المؤسسات الدينية الرسمية عن تيار الإسلامي السياسي وجعلتها ضرباً من الوسطية والاعتدال، مشيراً إلى أن منهج الأزهر الشريف قد حظي بمباركة إجماع الأمة على تتطاول القرون.
وأضاف مفتي الجمهورية في كلمته بجامعة أكسفورد البريطانية على خلفية زيارته التي يجريها حالياً بدعوة من البرلمان البريطاني، بيان حقيقة من يمثل الإسلام: أن "هذا السؤال من أهم الأسئلة التي طالما تكرَّر طرحها، وهو سؤال عن ماهية الدَّور المنوط بالدين والقوى الدينية في العالم المعاصر، الذي يموج بتغيرات كبيرة تحمل في طياتها كثيرًا من التحديات للدين وأتباعه.
وتابع: على أن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في هذا السياق هو: مَن المؤهَّل لتمثيل الدين للعامة بشكل وافٍ، وتوجيههم إلى الغايات السلمية والمنتجة؟ إن شيوع هذه النوعية من الأسئلة لَيؤكِّد على التحديات الضخمة التي نمر بها في هذه الفترة التاريخية الدقيقة".
روح الاعتدال والسماحة
وأردف المفتي في كلمتة: "لقد نجح العالم الإسلامي في إنشاء المؤسسات والهيئات العلمية التي لاقت شرعية مجتمعية بسبب ما قدَّمته من مرجعية دينية على مدار التاريخ، وقد تبلور فيها إجابة السؤال المطروح أعلاه؛ لكونها الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها إتاحة فهم للإسلام متصل بالأصل ومرتبط بالعصر، ومعارض في نفس الوقت للإرهاب والعنف والتمييز. وليس هذا الفهم الضروري للانخراط في العالم الحديث، بظاهرة جديدة، بل بالأحرى هو جزء من نفائس الموروث الثقافي والديني لنا نحن العرب والمسلمين".
وبين مفتي الجمهورية أن هذه الروح من الاعتدال والسماحة والمرونة تنعكس بشكل وافٍ في مثال المجامع العلمية الدينية كالأزهر الشريف في مصر، الذي يؤدي دَوره في خدمة العالم الإسلامي منذ ما يربو على ألف عام، ولم تنحصر خدمته في تخريج علماء متخصصين من الطبقة العالية والمفكرين وأهل الرأي فحسب، بل امتدَّت وظيفته إلى توفير الفرص التعليمية للرجال والنساء، والعمل على تهذيب النفس ونشر العمران وتحقيق الرؤية المتوازنة للإسلام المبنية على فهم مقاصده.
وقال "علام": "إننا على ثقة بمقدرة هذه المؤسسة العظيمة على التعبير عن الإسلام في مصر والعالم الإسلامي كله. وواجب الوقت هو دعم المؤسسات التي تسعى للتعبير عن الإسلام بما يناسب العالم الحديث، بمرجعية علمية تامة غير مشوبة بنقص، ومكانة عالمية لازمة للنجاح في بناء عالم أفضل".
دور الأزهر الشريف
وحول دور الأزهر الشريف أوضح مفتي الجمهورية أن أهمية الأزهر تكمن في كونه المؤسسة التعليمية الكبري في العالم حيث ينضوي تحت رايته العديد من المؤسسات الدينية، فبالإضافة إلى الجامعة الأزهرية هناك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي تدير أكثر من 120000 مسجد في جميع أرجاء الدولة، ينهض بالعمل فيها ما يربو على 80000 إمام، جميعهم من خريجي الأزهر. وهناك مؤسسة دار الإفتاء، وهي الصوت المرجعي لإصدار الفتاوى في مصر والعالم الإسلامي. وقد قامت دار الإفتاء لعقود طويلة بأداء دورها بوصفها المؤسسة الأولى في مصر المنوط بها مسئولية الإجابة عن الكثير من المسائل الحياتية، التي تواجه المسلمين فيما يتعلق بمسئولياتهم الدينية (قرابة مليون ونصف فتوى تصدر كل عام بإحدى عشرة لغة مختلفة).
وحول سؤال ما هي هذه المنهجية الأصيلة والمعتدلة تحديدًا؟ ومن أين نشأت، وما الذي تتألف منه؟، قال مفتي الجمهورية:"يمكننا أن نصوغ السمات الأساسية لهذا المنهج المعتدل، هذه السمات الممثلة للروح الكامنة في الأنشطة العلمية للعلماء وأعمالهم ومناصبهم العلمية. والحقيقة أن هذا المنهج منتشر في جميع أرجاء العالم الإسلامي، نجده في مقررات المراكز التعليمية الكبرى كجامعة الزيتونة بتونس، والمدرسة العثمانية بطرابلس (مدرسة عثمان باشا)، وجامعة القرويين بفاس، والجامع الأموي بدمشق، والمراكز العلمية الكبرى في حضرموت، وصنعاء، والهند، وموريتانيا وغيرها، بالإضافة إلى المدارس والمعاهد الثانوية التي تطوَّرت من هذه المراكز الأولى.
السمات الأساسية للاعتدال
وعدد مفتي الجمهورية السمات الأساسية لهذا المنهج المعتدل، والذي تجعله يتميز عن التأسلم السياسي، ذلك التيار الديني المناهض لما تدعو إليه المؤسسات الرسمية من خلال التالي:
السمة الأولى: العنصر الأول هو اتصال السند فيما يتعلق بعلوم النقل والفهم الفكري والتزكية الروحية.
فمن بين السمات الخاصة بمنهج الأزهر أن علومه ومناهجه العلمية تنتقل من طبقة إلى طبقة، وهذا الانتقال يؤلِّف سلسلة منتظمة وغير منقطعة من علماء الدين، حيث تتلقَّى كل طبقة من الطبقة التي تسبقها ما ينتقل إليها بسند متصل وفهم غير منقطع، ولن يجازف أحد من طلاب العلم الذين يتبعون هذا المنهج بالتصدي لمنصب علمي إلا بعد تلقِّي العلم والصحبة الطويلة للعلماء حتى يمنحوه إجازة رسمية لنقل العلم (وبالذات الروايات الحديثية)، وتعليمه وتدوينه. وإذا سألت واحدًا منهم عن أساتذته، فسيذكر لك الجمَّ الغفير منهم، وإذا سألته عن المدة التي قضاها في صحبة هذا الأستاذ أو ذاك، فسوف يخبرك بأنه قد قضى في صحبتهم وقتًا طويلًا حتى استوعب منهم منهج الفهم ومداخل العلم.
وهذا يعارض المناهج الأخرى التي تكون منقطعة والتي يتصدَّر فيها الطالب للإمامة دون صحبة كافية للعلماء. وإذا سألت أحدهم كم قد قضى في صحبة أستاذه، فسيخبرك بأنه ربما قابله مرة واحدة فقط، أو ربما قضى عددًا محدودًا من الساعات معه. فكيف يكون ممكنًا لهذا تحصيل العلم؟! وكيف يمكن الوثوق بفهمه؟
وتؤكِّد هذه السمة على أهمية المرجعية بالنسبة إلى منهج الأزهر، فقد أشار الملاحظون من الغربيين مرارًا إلى أنَّ من بين الصعوبات لاستعادة حسِّ الاستقرار للعالم الإسلامي الصعوبة المتعلقة بالطبيعة المنقطعة للمرجعية الدينية. وهم يحسبون هذا جزءًا لا يتجزأ من التراث الإسلامي ذاته، محتجِّين بأن الإسلام ليس فيه تصور لسلطة مرجعية مركزية مثل البابا، وعليه فإنَّ تلك المرجعية غريبة عن الإسلام. وهذا بعيد عن الواقع الحقيقي الذي يتمثل في قيام البنية الممتدة عبر الزمن لتراث العالم الإسلامي قبل أن ينفذ إليها ويتغلغل فيها التفكير السلفي والمتأسلم. وفي هذا المنهج التقليدي، عمل العلماء البارزون عملَ الخبير الذي يقيس المخرج الفكري للمسلمين على أساس رفاهية المجتمع الإسلامي كافة وتحقيق مصالحه؛ بل يفسح هذا المنهج مجالًا للقدرة على الإصلاح، يتصدَّى لها أهل العلم حقًّا، لا أولئك الذين درسوا العلم بشكل فردي غير موثَّق.
السمة الثانية: بذل الرعاية والأهمية اللازمتين للتمكُّن في علوم الآلة.
فهو منهج يُعنى بتعليم طلابه وتدريبهم على أساس التمكُّن من العلوم المساعدة (علوم الآلة)، مثل: علم النحو والصرف والاشتقاق والبلاغة بأجزائها الثلاثة وأصول الفقه وعلوم الحديث، بالإضافة إلى العلوم المساعدة الأخرى التي تعين الطالب وتنمي لديه القدرات الملائمة وتمكِّنه من القراءة النصية والإنسانية للقرآن والسنة على أساس العلم والفهم والبصيرة النقادة. بينما يستمر في ذات الوقت في تعلُّم كل هذه العلوم والمعارف على أساس منهج مقبول يتمكَّن الطالب به من الارتقاء من المبادئ إلى دقائق المسائل وتفصيلاتها، كما لو أن السمة الأولى -قضاء وقت طويل من الوقت في صحبة العلماء- تنبثق منها السمة الثانية؛ وذلك لأنَّ الصحبة الطويلة الممتدة للعلماء تعزِّز من اكتساب تلك العلوم.
السمة الثالثة: الفهم الشامل لمقاصد الشريعة العليا وغاياتها.
إحدى ثمرات الصحبة الطويلة للعلماء واكتساب المنهج العلم منهم تتمثل في انفتاح البصيرة الحادة وتطورها لفهم المقاصد العليا للشريعة وغاياتها، وفهم أن الدين إنما جاء لتحقيق المقاصد التالية: عبادة الله، والتزكية الروحية، وعمارة الأرض، وهداية الأمم للخير، ووراثة المعرفة من الأنبياء، وبناء الإنسان على الصلاح والخير، وبناء الحضارة، والإحياء الروحي حتى تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي ذاتها رحمة للعالمين، كما كان رسول الله ولا يزال رحمة للعالمين. عندما يتوافر هذا الفهم للمقاصد العليا للشريعة وغاياتها ويُوضع في متناول الطالب، فإن فهمه للدين بالتالي سيتسع ويقوى، وتستنير بصيرته في المسائل الفقهية كذلك؛ وسيمكنه هذا التدريب من تجنُّب الجمود والفظاظة، وتعليم أولئك الذين ينقصهم العلم أو يقعون في المخالفات بشكل لطيف، وتشكيل شخصيته حسب القدوة النبوية الكريمة.
والجدير بالذكر في هذا السياق، أن المناهج الحديثة الأخرى لا تُظهر في الغالب أيَّ معرفة بالمقاصد العليا للشريعة وغاياتها. فلا يوجد ذِكر في خطابها للمقاصد العليا والمآلات، فضلًا عن أن يتضح ذلك من فهمهم للنصوص وتطبيقهم العملي لها.
الفهم الصحيح للقرآن
السمة الرابعة: الفهم الصحيح للقرآن الكريم، باستعمال الآيات القرآنية في موضعها المناسب وسياقها الصحيح.
ذلك أنَّ أحد الآثار المهمة للغاية التي تنشأ من الصحبة الطويلة للعلماء ومعرفة العلوم المساعدة وفهم المقاصد العليا للشريعة وغاياتها، هو أن الملتزم بهذا المنهج والمؤيد له يصبح مؤسسًا في قراءة القرآن، ويتمكَّن من استعمال آيات القرآن وتطبيقها في سياقها الصحيح والملائم. فلا يعمد إلى آية نزلت لسبب معين ويطبِّقها بشكل غير مميز، كما يفعله بعض الناس في وقتنا الراهن. كذلك لا يجتزئ آية تتناول قضية عامة ليطبقها على أمر خاص، ولا آية نزلت في أمر خاص ليطبقها على قضية عامة… وهلمَّ جرَّا.
وذلك بخلاف المناهج الأخرى على كثرتها التي تنقِّب في القرآن دون إحراز أدنى درجات الفهم بما يؤدي في الغالب إلى تأويلات زائغة ومنحرفة. بينما الأمانة والصرامة والتماسك العلمي لمنهج الأزهر أمر معروف حتى للعامة من المصريين الذين تقودهم حساسيتهم الدينية الأصيلة في الغالب إلى فهم الانتهازية السياسية التي يعالج من خلالها المتأسلمون والسلفيون النصوص الشرعية (القرآن والسُّنة).
السمة الخامسة: الاهتمام الأصيل بشؤون المجتمع الإسلامي.
يتضح مما سبق أن طالب العلم يدرك خطورة مسئوليته بإزاء شركائه في الدين من المسلمين، وأن "الأمة الإسلامية" هي في الواقع مستودع الإسلام ذاته، وبأنها أمة علم وهداية وسماحة ورحمة، وليست أمة خراب وعنف وإرهاب، وهو بهذا يدرك أن من اللازم المشاركة والمساهمة في إنتاج ثقافة سلام عالمية على نحو مُرْضٍ وفعَّال ومتقدِّم؛ وهذا سيتحقق عن طريق المَخرج الثقافي في جميع صوره: العلوم والفنون والصناعات ونشر قيم العلم والتعلم في شتى مجالات العلوم الإنسانية والتجريبية والمنطقية.
السمة السادسة: الاهتمام بجميع المخلوقات.
طالب العلم صاحب الدُّربة على ما سبق، سوف يتحوَّل انتباهه نحو حقيقة أن الأسوة النبوية كانت معنية بشكل عميق بجميع المخلوقات (ومنها الكائنات الحية والطبيعة). يتبيَّن هذا من الحرص التام والرأفة والرحمة بجميع خلق الله. ومن أهم سمات المنهج الأزهري دلالةً أنه يزرع هذا المعنى السامي في قلوب طلابه، بخلاف المناهج الأخرى التي لا تلمح في خطابها أي إشارة لحقوق الأمم الأخرى والطبيعة على البشر.
منهج الأزهر
السمة السابعة: الطبيعة الكلية للعلم، فعبر قرون من تدريس العلوم وتخريج طلبة العلم، كان منهج الأزهر أن العلم يتألف من ثلاثة عناصر: الأول هو المراجع والأدلة في صورة القرآن والسنَّة وإجماع العلماء والقياس؛ العنصر الثاني هو المنهج المقبول والدقيق لفهم النصوص الدينية وطريقة تحليلها واستخراج معناها ودلالتها؛ والعنصر الثالث هو المؤهلات والصفات والقدرات والمهارات والمواهب العقلية التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي يؤهَّل ليكون ضليعًا في العلم، ومتمرسًا في العلوم الدينية الإسلامية. فالمراجع وحدها لا تكوِّن العلم ولا الهداية ما لم يصحبها منهج يثبِّتها ويوثقها، ينهض به شخص مؤهَّل ومتخصص.
أما المناهج الأخرى فتميل إلى تقسيم العلم إلى أجزاء، وتختزله إلى كسر وشذرات. ولا يفهم مؤيدو هذه المنهجيات من ماهية العلم غير المصطلح التبسيطي "الدليل". فهم لا يُظهرون أيَّ معرفة بوجه الدلالة؛ أي السؤال الأكثر تدقيقًا عن النحو الذي يدلُّ عليه الدليلُ على ما يدل عليه، وكيف يُنزَّل على الجزئية المخصوصة التي يثبتها؛ ولا يظهرون كذلك فهمًا بطريقة جمع الأدلة المتناثرة والمختلفة حول كل موضوع، وطريقة تكاملها، وتأويلها وتحليلها. ولا يعلِّل هذا المنهج لحالة وشرط الشخص المتصدي للعملية التأويلية وضرورة التأكد من أن قدراته الفكرية ومهاراته وكفاءاته جميعها مناسبة للمهمة التي هو بصددها. وبالتالي ينشأ عن ذلك قراءة اختزالية للمراجع والنصوص الإسلامية، ينشأ عنها بدورها رؤية قصيرة المدى عاجزة عن التفاعل مع العالم الحديث.
وكذلك، من بين ما يتمِّم عناصر العلم أن حامله يجب أن يكون ضليعًا في العلم، يجمع في نفسه كلًّا من العلوم الدينية النقلية (أي العلوم التي تُبتنى على الوحي والنقل والرواية) والعلوم العقلية (أي العلوم التي تقوم في الأساس على العقل)، بحيث يتمكَّن من التفاعل مع النماذج المعرفية وفهمها واستيعابها، وهي النماذج التي تتألَّف منها الحالة الراهنة للمعرفة والعلم العالمي، ويكون على هذا النحو في موقف يمكِّنه من نقل السمات والمعالم البارزة والمميزة لديننا إلى العالم كافة.
وأشار المفتي في حديثه قائلا:" لقد حظي هذا منهج الأزهر هذا بمباركة إجماع الأمة على تتطاول القرون، فضلًا عن موقعه الذي يتوسط العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، مما أتاح فرصة عظيمة للعديد من الوفود حول العالم للمرور من خلاله؛ ما نتج عنه اتساع للرؤية والانفتاح على الآخر واحترام خصائص الدراسات الإسلامية حول العالم، ومن ثم اتِّساع دائرة تلقِّي العلوم داخل الأزهر، وهو الأمر الذي ساهم في تنقيح الأفق واتساعه أمام مناهج التدريس لدى المؤسسات الدينية في مصر.
من ثَمَّ أصبح لدينا انفتاح حقيقي على الآخر وقبوله، حيث يجتمع طلاب العلم من كل أنحاء العالم تحت مظلة الأزهر الشريف، وهذا أمر معروف لدى الجميع. أما الأمر الذي قد يغيب عن البعض فهو أن الطلاب غير المسلمين قد جاءوا إلى الأزهر كذلك واستقبلهم علماء الأزهر الشريف بكل ترحاب وأنزلوهم منزلًا كريمًا.
لقد كان الأزهر -وما زال- قادرًا على متابعة التطورات التي تطرأ على حياة الشعوب وما تمر بهم من أحداث؛ فهو مدرك تمامًا للواقع العالمي وما يدور به من تغيرات تنعكس على تطبيق الأحكام الشرعية أو تغيرها بحسب السياقات المختلفة، وهذا معروف باسم "الاختيار أو التأصيل الفقهي"، حيث يضع من خلالها العلماءُ شرحًا تفصيليًّا لما جاء به الإسلام من استنتاج الأحكام لكي تناسب أحوال المسلمين وظروفهم في كل زمان ومكان، وهذا هو عين المنهجية التي لا بد أن تتبعها المؤسسات الإسلامية في وقتنا الحاضر وفي واقعنا المتغير حتى يكونوا فاعلين.
كما قال إن الأحداث التي مرَّت بها الأمة بكل ما حملته معها من تحديات، تفتح أمامنا بابًا كي نعتنق الأمل والتفاؤل؛ فالمؤمن لا يملك إلا أن يتحلى بالتفاؤل ويتمسك بالأمل من أجل الإنسانية، بل من أجل الخالق سبحانه وتعالى، وهذا لن يتأتَّى إلا من خلال مواجهة المشكلات والتصدي لها بكل ما أوتينا من قوة.
من هنا، أرى بصفتي مفتيًا للديار المصرية أنَّ هناك مسؤولية تقع على عاتقنا تُلزمنا وضع تصور شامل للاسترشاد بالمبادئ الدينية في مواجهة التطورات التي يشهدها العصر.