صفحات جميلة للأزهر في الحياة الثقافية المصرية

أ ش أ :
فيما بات الأزهر الشريف في بؤرة اهتمام المصريين الذين يتطلعون لغد أفضل وفي قلب الجدل المتعلق بالتعديلات الدستورية، فإن ثمة حاجة لتأمل الدور الثقافي للأزهر واستعادة "صفحات جميلة كتبها الأزهر في الحياة الثقافية المصرية".
وكان "الإتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية" قد أعلن أمس الأول عن انطلاق "الحملة القومية للتنوير ومواجهة التطرف"، وقال محمد النوبي رئيس هذا الإتحاد، إن الهدف الأول للحملة يتمثل في "التثقيف السياسي".
وللمرة الأولى في تاريخ الأزهر يصدر رئيس الجمهورية قرارا بتعيين وكيل الأزهر الشريف برتبة وزير، بعد أن شغل هذا المنصب طوال عمر الأزهر المديد أساتذة من قطاع المعاهد الأزهرية، فيما جاء قرار الرئيس المؤقت عدلي منصور مؤخرا بتعيين الدكتور عباس شومان، عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية وأمين عام هيئة كبار العلماء وكيلا للأزهر.
وفي تصريحات صحفية نوه شومان بأن من أهم الملفات التي سيبدأ بها ملف التعليم في المعاهد الأزهرية "على أساس أنه البنية الأساسية لتكوين الشخصية الأزهرية التي تتولى الدعوة والتدريس"، مؤكدا أهمية إعادة النظر في كافة المناهج التي تدرس بهذه المعاهد لتكون ملائمة لعصرنا، "لأنه كان يجب أن تغير من فترة طويلة جدا"، على حد قوله.
ونظرة إلى كتاب "أيام مجاور"، وهو أقرب إلى سيرة ذاتية للكاتب سليمان فياض أثناء مرحلة الصبا وتلقي العلم بالأزهر، تكشف عن مدى أهمية الدور الثقافي للأزهر في الحياة المصرية وشخصيات ملهمة في هذا المجال مثل الشيخ عبد الرحمن تاج والشيخ أحمد الشرباصي الذي دلَّ تلميذه الصغير في المعهد الأزهري بالزقازيق على مجلات "الرسالة" و"الثقافة" و"الهلال" وغيرها من المطبوعات التي كانت تثري الثقافة المصرية والعربية.
وهذا الكتاب المشوق حقا يتناول ضمن ما تناوله عبر صفحاته الـ 259 الصراع داخل المعاهد الأزهرية بين اتجاه تقليدي يركز على الحفظ والاستظهار، وآخر يروم الفهم والابتكار، وهو الاتجاه الذي يدعو له سليمان فياض.
وبعد سنوات وسنوات من انتهاء حياته الدراسية في هذا المعهد الأزهري لا ينسى سليمان فياض كتابا درسه في الصف الأول الثانوي، وهو كتاب "الأحاديث النووية" ويقول :"كان به أربعون حديثا بديعا لا أظن حتى اليوم أن هناك أحاديث تضاهي معظمها جمالا وحكمة وقصصا ومحبة للعلم وبناء للضمير الخلقي".
ومن الطريف والدال، أن الكاتب اليساري الراحل أحمد عباس صالح، تحدث بحنين وايجابية في سيرته الذاتية المعنونة "عمر في العاصفة" عن فترة من حياته عمل بها كموظف بالآزهر الشريف، ممتدحا الدور الثقافي للأزهر، وخاصة على صعيد العلاقات مع دول العالم الإسلامي.
وعندما يحين الوقت للكتابة بتوثيق دقيق حول دور الأزهر في الحياة الثقافية المصرية والعربية، ستكون هناك حاجة إلى وقفة أمام آباء ثقافيين مروا بالأزهر دون اتمام تعليمهم الأزهري لسبب أو لآخر مثل الصحفي الكبير الشيخ علي يوسف والأديب مصطفى لطفي المنفلوطي، أو قرروا مواصلة الحياة الأكاديمية في جامعات مدنية مثل عميد الآدب العربي الدكتور طه حسين.
وكذلك ثمة حاجة لتأمل ذلك التنافس غير الخفي بين خريجي الأزهر وخريجي دار العلوم وآثار هذا التنافس في الحياة الثقافية وما يعرف بـ"العصبية اللغوية" لأنصار كل فريق، وهي عصبية لم تكن تخلو من نواحي فكاهية ومناوشات قلمية.
ولا جدال أن الأمر كله لم يكن بعيدا عن مناورات السياسة والبحث عن السلطة ودسائس القصور أيامئذ ومن هنا دعا عملاق الأدب المصري عباس محمود العقاد الناقد الأدبي أن يجعل شعاره "فتش عن القصر" ليفهم حقيقة لا غنى عنها في تقدير مدارسنا الأدبية في الجيل الماضي وتقدير أسباب التجمع والتفرق بين حملة الأقلام في كل مدرسة منها.
وكما ذهب العقاد فبغير هذا الشعار يتعذر على الناقد الأدبي كل التعذر أن يدرك الأسباب الكامنة وراء تكوين تلك المدارس من مجرد العلم بآثارها المكتوبة وتراجمها المعروفة.
والأمر ينسحب على وزارة الأوقاف، كما يوضح المفكر المصري الراحل عباس محمود العقاد في كتاب "رجال عرفتهم"، موضحا أن القصر والانجليز معا شجعوا تعيين الأدباء بديوان الأوقاف لصرفهم عن الكتابة السياسية، "والصحافة المشاغبة"، وكان نفوذ الخديو وراء تعيين أدباء كبار وناشئين بديوان الأوقاف مثل محمد المويلحي كاتب "مصباح الشرق"، و"عيسى بن هشام"، وأحمد الأزهري، صاحب مجلة "الأزهر"، وعبد العزيز البشري ابن "شيخ الإسلام".
ويتوقف العقاد في سياق تناوله لشخصية محمد المويلحي عند ديوان الأوقاف ودور هذا الديوان، الذي تحول فيما بعد إلى وزارة، في الحياة الأدبية والثقافية بمصر في النصف الأول من القرن العشرين.
يقول العقاد في كتابه: لقيت محمد المويلحي لأول مرة في ديوان الأوقاف وهو يومئذ مدير قسم الادارة ويتبعه تحرير مجلس الديوان الأعلى ومجلسه الآخر الذي كان يسمى بالمجلس الاداري، وهو يومئذ ندوة المنشئين والمترجمين والأدباء والمحررين"، ومن بينهم شخصيات في وزن وقامة عبد العزيز البشري وعبد الحليم المصري والشاعرين المجيدين علي دسوقي ومحمود عماد.
وإذا كان أديب نوبل نجيب محفوظ قد عمل لفترة في وزارة الأوقاف وكانت هذه الفترة بشخصياتها تشكل مدداً لإبداعاته الروائية، فإن عباس محمود العقاد عرف طريقه أيضا للعمل بديوان الأوقاف، وها هو يوضح في هذا الكتاب :"كانت كتابتي الأدبية-السياسية طريقي الى وظائف الديوان"، بعد أن علم الأديب محمد المويلحي انه يعيش بالقليل مما يرده من أهله وبالقليل من أجور المقالات أو فصول الكتب المترجمة، فشجعه على التقدم بطلب للوظيفة في الديوان.
ومن طرائف ما يحكيه العقاد عن هذه الفترة في حياته بديوان الأوقاف ذلك الخلاف الذي طال بين "أنصار العرف الديواني وأنصار الابتكار والتجديد في أساليب الموظفين حيث كان من المألوف بعد إقرار أي مذكرة أن تذيل بكلمات: محول على مجلس الادارة أو محول على المجلس الأعلى".
وخطر لأديب من أدباء السكرتارية- كما يقول العقاد- أن يخرج على هذه الوتيرة حبا للتصرف الذي يليق بأمثاله وأنفة من التقليد الذي يلتزمه الموظف العتيق، فذيل المذكرات المعروضة على الجلسة كلها بعبارة "محال على المجلس"، ولم يذكر صفته اكتفاء بعنوان الديباجة.
واحتكم المختلفون الى المدير محمد المويلحي فكانت احدى الفتاوى التي ظهر فيها صاحب "عيسى بن هشام" من وراء "صاحب العزة المدير"، وقال المويلحي: "الحق أنني لا أرى صيغة التحويل إلا إذا ذكرت محطة باب الحديد ومحولجي الرصيف ولا بأس بصيغة محال بدلا من صيغة التحويل، ولكن يخشى إذا قيل "محال على المجلس" أن يفهم المجلس انها مستحيلة عليه وتبتعد هذه الشبهة إذا قيل "محال إليه".
ثم سأل المويلحي :"ولماذا لا يكتب اسم المجلس الذي تحال إليه"، فقال صاحب التعديل "لأنه معروف من ديباجة العنوان"، فحكمت النكتة حكمها على صاحب "عيسى بن هشام" وقال للأديب المتحذلق: "وهل تكتب على ظرف الجواب "ملحق بما تقدم بدلا من العنوان السابق فيما تقدم من الجوابات"؟!!
وربما تكشف هذه الملاحظة الديوانية عن "محمد المويلحي صاحب عيسى بن هشام قبل صاحب العزة المدير"، وذوقه في اجتناب ما يتحرى اجتنابه من الكلمات المطروقة، وكما لاحظ العقاد بحق فإنك لا تقلب صفحتين من "حديث عيسى بن هشام"، إلا لمست فيها هواه من أبناء البلد وسخريته بل استجهاله واستحماقه لنفخة الذوات من الطبقة الأخرى.
وهو في الوقت ذاته لا يعفي أبناء البلد من دعابته وغمزه، ولكنه يداعبهم ويغمزهم كما يفعل أبناء الأسرة الواحدة في مناوشات الدار بغير زراية ولا نقمة وعلى غير هذا النحو كان منحاه إذا كتب عن الآخرين.
وسيظل كتاب "حديث عيسى بن هشام" نموذجا يقتدي به من يطلب التجديد ويتعلم الابتداء به على نهجه القويم، فهو مثال من النقد الاجتماعي يضارع أبلغ المثل في الآداب الأوروبية المعاصرة، كما رأى العقاد حينئذ، منوها بأن المؤلف والمدير في ديوان الأوقاف لم يقطع كتابه هذا مبتورا من جذوره بموطنه ليغرسه غريبا بين مواطن الضاد على غير منبته.
بل تناول محمد المويلحي جذور المقامة العربية، فأقام عمله الابداعي عليها وأحسن تناولها واقامتها لفظا ومعنى، فإذا بها مقامة يرتضيها بديع الزمان ومنهج من النقد العصري "يرتضيه سويفت ولي هنت وهايني وأناتول فرانس".
ولعل النظرة المعاصرة لمحمد المويلحي بكتاباته ونكاته اللاذعة وسخريته الواسعة تستنتج ما ينبغي استنتاجه حول أهمية الدور الثقافي للأزهر والأوقاف في الحياة المصرية والعربية على وجه العموم، ناهيك عن تأمل شخصية ثقافية في حجم الأستاذ الإمام محمد عبده الذي كان موضع نقمة شديدة من الخديو عباس الثاني لمعارضته إياه في سياسته بشأن الأزهر وديوان الأوقاف.
وواقع الحال أن التاريخ الثقافي للأزهر والأزهريين واهتمام المصريين بمواقف الأزهر في اللحظات الفارقة، أمر يكاد يكشف بجلاء عن حقيقة أن المصريين لا يمكن أن يخاصموا هويتهم وينسوا تدينهم، بقدر ما هم يرفضون التطرف لأنه يجافي الوسطية التي تعد سمة أصيلة من سمات الحياة المصرية واحتفال المصري بالحياة رغم كل المنغصات وأي منغصات وكروب.
ومن هنا يقول كاتب السيناريو ناصر عبد الرحمن في معرض تناوله للأوضاع الراهنة والأفكار المتطرفة: "لابد وأن يكون للأزهر دوره في تغيير الفكر وبيان الوسطية"، معتبرا أن مصر تتعرض لمخطط "لتصدير الإرهاب وتفكيكها".
وكان الأمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب، قد أعلن في سياق لقاء عقده مؤخرا مع ممثلي الأزهر في لجنة الدستور أن "الأزهر هو المسؤول الأول عن الشريعة والهوية الإسلامية في مصر"، منوها بأنه يجري العمل على ضمان حقوق كافة المصريين وحرياتهم وحقوق المرأة وكيان الأسرة للحفاظ على الوحدة الوطنية وجمع شمل الأمة في بوتقة الوطن الواحد دون اقصاء لأحد".
وقال الدكتور عباس شومان الوكيل الجديد للأزهر الشريف أن الأزهر منذ أكثر من ألف سنة "ينشر الفكر الوسطي المعتدل الذي لا شطط فيه"، موضحا ان "الأزهر يحرص دائما على أن ينأى بنفسه عن السياسة، ولكنه يتفاعل مع الشأن السياسي تفاعلا شرعيا فيحرم القتل والإرهاب والظلم والاعتداء"، فيما "ينحاز الأزهر لرغبة الشعب ومصلحة الوطن".
ثم إن تاريخ الأزهر بكل عراقته كمؤسسة من مؤسسات الدولة دال على مدى رسوخ الدولة المصرية التي يتوهم البعض في تهاويم التخرصات سهولة هدمها وهي تخرصات مضادة للوطنية لأن الدولة هي حافظة الوطن والقضية الثورية الحقيقية هي ليست الدولة وانما إدارة الدولة لصالح الشعب.
وهكذا أيضا كانت تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان التي تهجم فيها على شيخ الأزهر الشريف طعنا في الدولة المصرية وشعبها، بقدر ما كانت محاولة مرفوضة لفرض الوصاية على المصريين.
فالأزهر وعلى رأسه شيخه الجليل أحمد الطيب بثقافته الواسعة وذوقه الصوفي مكون أساسي في قوة مصر الناعمة، فيما سيبقى "رواق الأتراك" بالأزهر الشريف دالا على قوة ورمزية العلاقة بين الشعبين المصري والتركي، بقدر ما ينطوي على إشارة دالة حول الدور الثقافي للأزهر في العالم الإسلامي ككل وما كان للأزهر بحكم تاريخه ودوره إلا أن ينحاز لثورة الشعب المصري.
فليكن الأزهر الشريف حارس أحلام المستقبل في مصر وحاميها من الشطط والانحراف وهؤلاء الذين يسعون في الأرض فسادا وخسرانا للدنيا والدين، دام ذخرا للوطن وذخيرة للثقافة المصرية وضوءا عندما يدلهم الليل وتشتد الرياح.. حاضر في صحوة فجر ووطن وفي الغد الطالع من عزم الرجال، هذا هو الأزهر فأبشر يا وطن .