راديو

رئيس مجلس الإدارة
منال أيوب

رئيس التحرير
محمد الاصمعي

نسخة تجريبية

علاء خالد يكتب: نحن وحيديون جدا بدون موسيقي

أثناء وقوفي أمام محطة ترام سابا باشا، يوم الجمعة الماضي، قبل أن تغرب الشمس بقليل، في تلك اللحظة الانتقالية التي نودع فيها النهار؛ استمعت لصوت ناي حزين، أو هكذا خُيل إليّ، يأتي من مكان قريب، يشبه صوت موسيقى الهنود الحمر، كما شبهته سلوى في حينها.

دققت السمع قليلا، وجلت ببصري بحثا عن مصدر الصوت، لمحت رجلا كبيرا فى السن يتجاوز السبعين، جالسا على الرصيف الموازى لشريط الترام مباشرة، وبجواره مجموعة من الأكياس البلاستيكية الكبيرة الملآنة عن آخرها بالنفايات. كان هذا الرجل مصدر هذا الصوت الحزين، والمفاجأة أنه كان يعزف على ماسورة صغيرة برتقالية اللون مجوفة من البلاستيك، من تلك التى تستخدم فى الأشغال الكهربائية. قام بثقبها عدة ثقوب، المسافة بينها متساوية، فتحولت فى يده إلى ناي يعزف عليه في أوقات الراحة من جمع النفايات من حرم الترام كما أخبرني عندما اقتربت منه وسألته.

كانت هذه الوصلة الموسيقية هي مكافأته لنفسه بعد يوم طويل من جمع النفايات من فوق قضبان الترام، بدأه من الفجر. ودعني وهو يكمل مقطوعته التي لم يكن يسمعها سواي أنا وسلوى، بالإضافة لفتاتين كانتا تقفان عن بعد على محطة الترام.

ذكرني هذا المشهد بمشهد قريب في معناه وتوقيت حدوثه في فيلم "الأزرق"، للمخرج البولندي كريستوف كيسلوفسكي. كان هناك أيضا رجل متشرد يعزف على فلوت وهو جالس على رصيف المقهى، بينما بطلة الفيلم، جولييت بينوش، تجلس بداخله، وتتحرك ذكرياتها مع ضوء الشمس الذي يتحرك على فنجان القهوة أمامها حتى يأفل. بينما هي ذائبة، بكل حزنها، على فقد زوجها الموسيقار وابنها في حادثة؛ في صوت الناي الآتي من الرصيف المواجه للمقهى، حيث يجلس هذا المتشرد المتسامي.

في الفيلم قامت الزوجة مذهولة لتسأل هذا المتشرد عن أصل هذه المقطوعة الموسيقية التي تعود لزوجها الميت، كأنه كان يعزف بالنيابة عن زوجها الذي مات ليخفف حزنها. بينما أنا ذهبت إلى هذا العجوز، مذهولا أيضا، لأشاهد عن قرب هذه الماسورة البلاستيكية التي يتحول بداخلها هذا الهواء المسن، وبين هذه الأسنان التي عجنها دخان السجائر؛ إلى موسيقى.

بالنيابة عمن كان يعزف هذا العجوز؟ عن عمر خاسر أمضاه في الشقاء؟ عن أمل ما زال يعيش وسط النفايات؟ عن طفل كأنه كان يحب العزف؟ عن نهاية قريبة يرسل لها موسيقاه؟

أثناء إحدى أزمات حياتي اشتريت هارمونيكا وظللت أعزف عليها طوال النهار، في كل مكان، على البحر والترام، لم أبطّل عزف. كنت وقتها أعزف بالنيابة عن الغضب والأمل اللذين ولدا بداخلي معًا، في تلك اللحظة الانتقالية من حياتي.

إننا نعزف بالنيابة عن أحد ما، لنوصل رسالة ما، ولكن بدون عنوان أو مكان محدد لاستقبالها. رسالة للهواء الذي سيحملها معه ويذهب بها إلى أقصى بقاع الأرض، خارج النفس وداخلها. فالموسيقى رسالة غير مفهومة لها مستقبِل لا يحب الرسائل المفهومة.

إننا نتعرف على أنفسنا وجغرافيا وجودنا من خلال الموسيقى، التي تعمل عمل المجسات في التربة، لتكشف العمق الذي وصلنا إليه بدون أن ندري.

لهذا المتشرد حرية ألا يخسر شيئا، يقف على الدرجة صفر من العالم. أي زيادة عنده تأتي مباشرة من القلب، الذي لا يرتبط بوضع اجتماعي، بل بفائض إنساني يبث منه موسيقاه على الهواء. إنه لا يعزف لتزجية الوقت أو لتمرير الوحدة، ربما ينتظر بعض العملات النقدية، كما كان ينتظر المتشرد فى فيلم "الأزرق"، ولكنها خدعة، سبب واه. رغم هذا الرصيف الذي يشغله ومستواه الأدنى في طبقات الشارع، فإنه كان يضيف شيئا جوهريا للحياة بهذا العزف المجاني، يضع أرقاما بجانب "صفر الحياة"، ويهب الحياة جزءا من هذا "الصفر الصوفي" الذى يقف عنده عبر هذه الموسيقى وهذا العزف.

عندما تقف عند درجة "صفر ملكية"، عندها يمكن أن تهب الموسيقى، أو تمنحها بلا مقابل، ولا شك أنك سترى الحياة بشكل آخر وهي منزوعة الدسم ومنزوعة من "الأنا". عندها ستخرج الموسيقى من "أنا عليا" لم تعد "أناك"، التي ذابت بداخلها.

البطلة في فيلم "الأزرق" بعد فقدها لزوجها وابنها فى حادثة، كانت تقف في نقطة "صفر ملكية"، متشردة ولكن بوجه حديث، غير المتشرد التقليدي. وربما هناك متشردون حديثون يلبسون بتأنق ولكنهم في النهاية مشردون يودون ولو يفقدون "أناهم" الخاصة بلا رجعة.

البطلة كانت تستمع لموسيقى الفلوت وهي ذائبة تماما، تريد أن تحرر "أناها" التي تحمل بداخلها الزوج والابن، لتنسى. كانت موسيقى الفلوت كما تذكِّرها بزوجها، تقوم بدور "الأنا العليا" التي تحررها من ألم الفقد.

الألم بطبيعته ضد الملكية، هو العنصر المخرِّب في أي نظام رأسمالي، سواء رأسمالية الحب أو الاقتصاد، لأنه يجنح بنا تجاه "صفر ملكية"، كي نتحرر منه.

الموسيقى تحررنا من "الأنا". نحن أنانيون جدا بدون موسيقى.

الموسيقى تقف ضمن هذا الجيش المخلِّص فى العالم، في هذا الجزء المتواري والأكثر ثورية في حياتنا اليومية، الذي ندخل ونخرج منه بدون حواجز أو شروط، إلا شرط التخلي، سواء عن الألم والملكية.

الموسيقى لا تشرح، كما تفعل باقي أشكال الفن، كونها أصلا من أصول الحياة، كالماء والتراب والنار والهواء. ولبساطة دخولنا وخروجنا منها اعتدنا عليها، ونزعنا عنها وجهها الثوري الخلاق، الذي يعود ويظهر في الأفلام بقوة، تصبح هي البطل الذي لا يراه أحد، البطل الحقيقي الذي لا يصنع من نفسه نموذجا ليحتذى، بل يفتح كونا للخلاص.

كتبتُ في نهاية التسعينيات قصيدة عن الموسيقى:

"على إيقاع أغنية،

أردد معها،

أرقص،

في تلك المساحة الضيقة من الزمن

نتواطأ لنكون سعداء.

الموسيقى، الموت، أو مظاهرة عامة

البكاء، أو الرقص، أو الهتاف

نحن وحيدون جدا بدون موسيقى".

نقلاً عن جريدة التحرير

Login

Welcome! Login in to your account

Remember me Lost your password?

Don't have account. Register

Lost Password

Register