علياء خطاب تكتب: الوطنية الإمام الأكبر
علياء خطاب
حين رشح الشيخ العطار، شيخ الأزهر السادس عشر، رفاعة الطهطاوي للابتعاث لفرنسا للعمل كإمام وواعظ لدفعة قوامها أربعة وثلاثون طالبا مبتعثا، طلب منه أن يدون كل ما تقع عليه عيناه ويدركه عقله.
لم يأل الشاب الأزهري المجتهد جهدا في أن يسطر لنا الحياة الباريسية بعيون المسلم المصري الأزهري، الذي ترك وطنه ليتلاقى مع حياة أخرى وحضارة أخرى وفضاء مغاير في طبيعته الثقافية والعلمية؛ ليصيغ لنا تجربته الكاملة في كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
لن أُسهب في الحديث عن الكتاب وأثره في تلاقي الحضارات والدفع بعجلة التقدم الثقافي والحضاري في مصر آنذاك والمساهمة في تحريك المياه الراكدة وإحداث نهضة مصرية، ولكني سأتوقف عند وطنية الشيخ رفاعة التي تجلت معانيها في قوله: لئن طلقت باريسا ثلاثا***فما هذا لغير وصال مصر؛ باريس بكل بريقها ووهج حضارتها لم تشبع وجدان رفاعة ولم ترو ظمأ حنينه إلى وطنه مصر، فطلقها ثلاثا معلنا العودة إلى قلبه ووجدانه وعقله مصر.
أليس هو القائل عن مصر فى زهو يصل لمرتبه التفاخر، وفى حب يصل لمرتبه التصوف"ولا يشك أحد أن مصر وطن شريف إن لم تقل أشرف الأمكنة.. فهى أرض الشرف والمجد فى القديم والحديث, فكأنها جنه الخلد منقوشه فى عرض الأرض بيد الحكمة الإلهية التى جمعت محاسن الدنيا فيها، حتى تكاد أن تكون صورتها بلده معشوقة السنى رحبه المثوى".
لن أبالغ إن قلت إن هذه الروح الوطنية التي جسدها الشيخ رفاعة قولا وفعلا هي نفس الروح التي استشرت في جسد الشخصية الأزهرية عبر الأزمان –حتى قبل عصر رفاعة- وهي التي كانت تغذي الثورات الوطنية بالخُطب والكتابات والأفعال؛ وهي ذاتها التي شكلت شخصيات ثورية تاريخية كأحمد عرابي وسعد زغلول وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وغيرهم…
جِين وراثي تتناقله الشخصية المصرية الأزهرية، لتسطر على مر العصور صفحات مضيئة لدور الأزهر الوطني في حماية وجه مصر الحضاري من أن تشوبه الفتن أو تنال منه المحن.
لم ينس المصريون يوما مشهد مواجهة الأزهريين لخيول الفرنسيين في صحن الجامع الأزهر؛ ولايزال صدى صوت خطبة الرئيس الراحل عبد الناصر يسري في جنبات أروقته منذ اعتلائه منبره إبان العدوان الثلاثي مستنهضا الهمة المصرية من بيت الأمة المصرية الأزهر.
لقد توالت على مصر العديد من المعارك مع المحتلين الغاصبين لأرضها ومقدراتها، وفي كل نازلة وحادثة لم يكن الأزهر يوما غائبا عن ميدان المعركة بكل ما أوتي من أدوات وعتاد.
وفي العهد الحاضر شهدت مصر تحولات كثيرة خطيرة وتوالت عليها هزات زلزلت جسدها على كافة المستويات؛ نيران اندلعت من فوهة بركان كاد أن يأكل الأخضر واليابس في وقت بلغت فيه القلوب الحناجر، وكادت مصر أن تخضع فيه لاحتلال من نوع جديد؛ احتلال داخلي لفئة تدثرت برداء الدين واستغلت المشهد من أجل الوصول لمبتغاها للهيمنة على عرش مصر.
كانت مصر على وشك أن تكون مستعمرة للاحتلال الإخواني لأمد لا يعلمه إلى الله، لتقع فريسة لجماعة لا تعرف منهجا سوى الإقصاء واغتيال كل من يقف عثرة أما تحقيق أهدافها الاستعمارية.
لم يكن الأزهر بمنـأى عن سهام هذا الفصيل المتأسلم، الذي جاهد منذ اللحظة الأولى كي يسحب بساط الريادة الدينية من الأزهر، ليهيمن على أهم أحد روافد قوى مصر الناعمة ويسخره سلاحا في معركته المزعومة من أجل الإسلام.
وبحكمة العالم ووطنية المصري الأصيل استطاع الأزهر بقيادة الإمام الأكبر أحمد الطيب أن يتصدى لتلك المحاولات منذ اللحظة الأولى؛ فكان الانسحاب من حفل التنصيب في جامعة القاهرة اعتراضا على محاولات التقليل من شأن الأزهر، وكذلك التصدي لحادثة التسمم المفتعلة بالمدينة الجامعية والصمود أما مظاهراتهم ومحاصرتهم للمشيخة للسطو على المؤسسة وتطويعها لمخططاتهم الواهية.
اجتمع الإمام الطيب في "بيت العائلة" بالمصريين مسلميين ومسيحيين ليرسل نداءاته إلى شعب مصر بأن يعلوا القيم العليا للإسلام والمسيحية وأن يحافظوا على السلمية ويعصموا الدماء ويجعلوا مصلحة الوطن فوق كل شيء، حتى تصل سفينة الوطن إلى بر الأمان.
وكان لموقف الأزهر الوطني أبلغ الأثر في تجاوز تلك المحنة التي عصفت بمصر وبالمصريبن، وفي تخليص مصر من الاستعمار الإخواني الذي تجرأ أيضا على الأزهر كثيرا وحاول سحب بساط الريادة الدينية من تحت قدميه ليتولاها القطبيين التكفيريين.
وحين احتدمت الأزمة في الشارع المصري وكثرت الفتن وباتت تحصد العديد من أرواح المصريين تدخل الإمام أحمد الطيب وجمع المصريين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم في بيت أمتهم "الأزهر" ليجدوا حلولا للخروج من الأزمة.
وعلى المائدة الأزهرية طرح الإمام المجدد شيخنا الطيب ومعه نخبة من المفكرين والمثقفين المصريين على اختلاف انتماءاتهم وثائق الأزهر التاريخية التي تعد إنجازا في تاريخ مسيرة الأزهر لا يقل عن إنجازات الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده.
تلك الوثائق التي رسمت ملامح الدولة العصرية التي لا تتصادم مع أصول الدين وفي الوقت نفسه تستجيب لمستجدات العصر.
ومع اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو انحاز الإمام الطيب للشعب المصري وانضم لصفوف الجماهير المصرية التي خرجت بالملايين في حشود مهيبة لم تشهدها مصر من قبل للمطالبة بإطاحة نظام الإخوان المتأسلمين.
لقد رد الأزهر على مزاعم الجماعة بأن السيادة للشعب في إطار دستور وقانون يرسخ للدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة، وأغلق الإمام الطيب بحضوره بيان الثالث من يونيو الطريق أمام دعاة الحرب من أجل الإسلام في الداخل والخارج وخرج بمصر من نفق مظلم ومن استهداف مكير للوطن ومؤسساته.
لم يتوقف الدور الوطني للإمام الطيب عند هذا الحد، بل سارعت الروح الوطنية للإمام الأكبر بالتبرع بقيمة الجائزة العالمية التي حصل عليها من دولة الإمارات عام 2014باعتباره شخصية العام الإسلامية التي تنظمها إمارة دبي لخدمة القرآن الكريم، والبالغة نحو مليون جنيه، لصندوق تحيا مصر؛ كان مثلا وقدوة لغيره ممن دعموا مصر اقتصاديا في هذه الفترة.
استدعيت في هذا المشهد موقف الشيخ عبد الرحمن تاج، شيخ الأزهر الأسبق، الذي جمع مبالغ مالية كثيرة وأسهم بها في دعم قوات الدفاع وإعانة المنكوبين من أسر الشهداء في العدوان الثلاثي على مصر؛ وهو نفسه الذي ساهم وغيره من علماء الأزهر ممن تنازلوا عن أنصبتهم في أوقافهم الخاصة وجزء شهري من رواتبهم لصالح تعمير بورسعيد ومساندة شعبها المنكوب.
جسد الإمام الأكبر روح الوطنية حين أسس بيت الزكاة والصدقات المصري، وجعل إشرافه تابعا له، ليكون هذا الكيان نموذجا للتكافل والتراحم بين أفراد المجتمع المصري وليكون يدا ممتدة لكل ذي حاجة وأمنا لمن لا عائل له براتب شهري لا ينقطع.
لم تغب عني صورة وطن
ي في كل محفل خارجي وقف فيه الإمام الطيب مخاطبا العالم كله باسم الأزهر والإسلام، إنه إمام المسلمين يخاطب الإنسانية في أبهى صورها متوشحا بأصالة وحضارة وطنه وعظمة وسماحة رسالة خاتم النبيين.
كان الوطن حاضرا كله حين وقف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر ومعه الألمان وكل الحضور، أثناء مشاركته باحتفالية الحركة الإصلاحية في أوروبا، دقيقة حداد على أرواح ضحايا الإرهاب الغاشم على أتوبيس كان يقل أقباطا وهو في طريقه لدير الأنبا صموئيل بمغاغة شمال المنيا؛ كان الوطن حاضرا في إندونيسا تتغنى بنشيده الوطني طالبات إندونيسيات احتفاء بإمام الأزهر ونحن نردد هنا: هذه هي مصر الشريفة العزيزة بأزهرها.
كان اسم مصر يزهو ويعلو في كل رحلة جاب فيها الإمام الأكبر العالم شرقا وغربا، مستدعيا طيور السلام متحديا خفافيش الظلام دعاة الدمار؛ كان الوطن حاضرا دائما في كل تكريم واحتفاء بإمام الأزهر، قوة مصر الناعمة ذات الأثر.
كان الوطن حاضرا يجسده الإمام الطيب حين دعا بأعلى صوت إلى نشر مفهوم «المواطنة» بديلًا عن مصطلح « الأقلية»، مستلهما ذلك من الدستور النبوي الذي أرساه نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة تأصيلا لمبدأ المواطنة.
ومن صحن كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية اجتمعت مصر بقيادة رئيسها وحضور رموزها الدينية، لتتجلى الوطنية المصرية المتوضئة بسماحة الإسلام الضامنة شرعا لكنائس المسيحيين ومعابد اليهود وحقهم في ممارسة شعائرهم بما تستوجبه أيضا حقوق المواطنة؛ لحظة تاريخية استثنائية تلاحم فيها المسجد مع الكنيسة في صمود وإصرار على حب الوطن والاحتماء بأركانه ضد كل عبث وغدر، وفي الخلفية صوت أحمد شوقي مرددا: وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نفسي.
تلك بعض ملامح من وطنية الإمام الطيب، الرمز الديني المتسلح في ميدان الدفاع عن مصر بالإخلاص والتفاني من أجل حماية الدين ممن يشوهونه وحماية الوطن ممن يحاربونه.