ياسمين الخطيب تكتُب: بس إيه هي السعادة؟
في طفولتي، اصطحبتني أمي لزيارة قريب لنا مريض. كان منزله العتيق بحي الجمالية مكونا من طابق واحد، يسكنه هو وزوجته، وبدروم تسكنُهُ خادمة بيضاء ضخمة ينادونها "سيدة العمشة"، رغم أن عاهتها لم تكن في عينيها وإنما في أذنيها. أما علة صاحبة البيت فكانت الوسواس من التلوث والفوضى، لذلك كان بيتها نظيفا مرتبا خاليا من أي أثرٍ للحياة.
تفاصيله كئيبة بامتياز، كأنه استوديو سينمائي صممت ديكوراته بدقة، لتصوير مشهد جنائزيٍ يشيع فيه كل الأبطال. على الباب طلبت مني أمي أن أخلعَ حذائي، فارتعشت قدمي بملامسةِ الأرضيةِ الباردة.
استقبلتنا الصالة الفسيحة الموحشة، بأرضياتٍ وجدرانٍ خاليةٍ من أي سترٍ، فالنوافذ بلا ستائر والأرضيات بلا سجاد.
رائحةُ الفنيكِ تَنبعتُ من شُقوقِ البلاطاتِ الرماديةِ العتيقةِ، وكَراسي الصالونِ ترتدي أكفانا بيضاءَ بلونِ الجدران. جَلستُ إلى جانبِ أمي في أدبٍ لم تَعهدهُ مني، احتراما لأصداءِ تأوهاتِ قريبِنا التي أفزعتني، وقد تعمدتُ ملامسةَ جسدِها احتماءً بها من فيلمِ الرعبِ الذي سَقطتُ داخلَ أحداثِه فجأة.
كان معي تليفون بلاستيكيُّ ورديُّ بسماعةٍ ذهبية، أخرجتُهُ من حَقيبتي وادعيتُ أني أتحدثُ إلى كائناتٍ فضائيةٍ تحملُ أسماء آدمية تنتهي بحرفيِ الواوِ والشينِ، مثل "أحمدوش.. محمدوش.. ياسمينوش.. وهكذا". ثم تجرأتُ قليلاً بعدما أثنَت السيدةُ على حلاوتي ولطافتي وأدبي المصطنعِ، فتطوعتُ بتقديم فِقرتي المُمَيزةِ، وتقليدِ الأَخوَات الشِريهانيات الثلاثة "فاطيما وحاليما وكاويما" ظنا مني في غيرِ محله، أن فِقرتي قد تخففُ عنها.
فجاملتني بعدَ انتهاءِ الفِقرةِ بالتصفيق، ثم أكملت حديثها مع أمي، بينما أكملتُ أنا عرضِي بغيرِ جُمهور.
ولما تقمصتني الروحُ الشريهانيةُ وبدأتُ في الشقلبةِ والتنطيطِ على الكراسي، وأنا أغني "الليالي الألف.. ليلة بعدها ليلة"، نَهرتني أمي بالنظرةِ التي أعلمُ ويعلمُ كل طفلٍ مصريٍ معناها: "بس أما نروح البيت".
جلستُ ما تَبَقى من وقتِ الزيارةِ إلى جانبِ أمي، أنصتُ مُجبرةً إلى فضفضةِ الزوجةِ عن رحلةِ زوجِها مع الفشل الكلوي، ومُعاناتِه ومُعاناتِها وهي تمنعُ عنه الماء في جمرةِ القيظِ، تنفيذا لتعليماتِ الأطباء.
وقد توقفت خلالَ حَديثِها الطويلِ الباكيِ عند هذه الجملة: "إمبارح قالي أنا بس نفسي في حتة بطيخ.. حتة واحدة، ما قدرتش أديهاله".
رَغمَ كآبةِ الزيارةِ، فإن جُملتَها تلك شكلت جزءًا من فِكرتيِ عن السعادةِ، حتى اليوم. السعادة في حصولِنا على ما نَشتهِيه، بغض النظر عن ماهيتِه أو قيمتِه، لذلك أتعسُ لحظاتِ حياتِنا هي تلكَ التي نَزهدُ فيها في الحياةِ، فلا نَشتَهي منها شيئا، وفي ذلك قال محمود درويش: "قد ماتَ فجأةً فينا .. ما نشتهيهِ ويشتهيِنا.
نقلاً عن التحرير