محفوظ عبدالرحمن "حلواني" التاريخ.. "بروفيل"
عانى في بداية حياته من العزلة بحكم كثرة تنقل والده بين المحافظات بسبب عمله، وهو الأمر السلبي الذي تحول إلى مفتاح لدخول عالم الأدب على إثر تعلقه بمكتبة المنزل، وبدأ في قراءة كل المؤلفات «من فوق لتحت» وحفظ رواية «مجنون ليلى» وهو لا يزال في الصف الأول الابتدائي.
هذه البداية رسمت طريق الكاتب والسيناريست محفوظ عبدالرحمن بشكل طيب، وهو من استطاع الكتاب عن أكثر من شخصية في عدة أعمال فنية، على رأسها «أم كلثوم» وجمال عبدالناصر وعبدالحليم حافظ وبيرم التونسي، بجانب تأليفه لأجزاء مسلسل «بوابة الحلواني» التي حققت طفرة واسعة في تسعينيات القرن الماضي.
في 11 يونيو 1941 وُلد محفوظ محمد عبدالرحمن عرفات لوالد يعمل ضابط شرطة، وبحكم وظيفته وتغير أماكن خدمته اتسمت حياته آنذاك بكثرة التنقل بين المحافظات، وقلة صداقاته، إذ عاش في الفيوم خلال دراسته بالصفين الأول والثاني الابتدائي، ثم سمالوط في الصف الثالث، ومحافظة المنيا في السنة الرابعة، واستمر نسق حياته على هذه الشاكلة حتى عانى من الوحدة: «كل لما يكون ليا أصدقاء أخرج وأروح مكان تاني».
خلال فترة عيشه بالفيوم واظب أحد الجيران على جمع الأطفال المتواجدين بالعقار حتى يقرأ لهم مختلف القصص المنشورة بالمجلات، وهو ما شجع الطفل «محفوظ» على الإطلاع منذ الصغر: «خلاني فعلا أبقى مولع جدا بالقصص دي».
بعد تمكنه من القراءة حرص على تأجير الكتب مقابل قرشين ساغ من أحد المتجولين بالكتب، ورغم عمل والده كضابط شرطة إلا أنه لم يطلع على الروايات البوليسية ما أثار فضوله، حتى وجهه أحد الفلاحين إلى مكتبته الخاصة وحصل منه على 30 رواية فرغ من قراءتهم خلال أسبوع واحد، لكنه لم يحب ذلك اللون من الأدب.
بانتهائه من المرحلة الثانوية اتجه إلى محافظة القاهرة ملتحقا بكلية الآداب، ولديه مخزون كبير مما قرأه من الكتب حتى قال عن نفسه: «كنت استويت قراية»، آنذاك كان العميد هو الدكتور طه حسين.
اللقاء الأول بينه وبين عميد الأدب العربي كان ضمن أحد لقاءات الجمعية الأدبية بميدان التحرير حينها، وهو المقر الذي كان يديره الراحل يوسف السباعي، ودخل معه في نقاشات كثيرة رغم أنه كان حسب قوله: «متعالي جدا بالذات على الشباب وبيسخر من الأجيال الجديدة ومنا»، ورغم أنه ليس من طلابه لكنه تسلل في مرة إلى إحدى محاضراته، وفي نهايتها قال: «الطالب اللي دخل وهو مش من هنا ما يجيش هنا تاني».
تخرج «محفوظ» في عام 1960 وتمكن من نشر أول مجموعة قصصية له، حتى عُرف بين الناس على أنه قاص وكاتب، قبل أن يعمل في وزارة الثقافة، ثم الكتابة في عدة صحف منها «الآداب» و«المساء» و«الجمهورية» و«الأهرام».
فكر، بعد أن انتبه كثيرين لما يكتبه، في احتراف الكتابة وألا يجعل الأمر مجرد «مزاج» حسب قوله، ليبدأ أولى أعماله الفنية من خلال سهرة تليفزيونية، وهو اللون الذي يفضله إلى حد كبير لأنه «يقول ما يريده بشكل مكثف في وقت محدود»، عكس الأعمال الدرامية: «كنت مفتون بهذا الشكل ومازلت».
اتجه للكتابة المسرحية مؤلفا «حفلة على الخازوق» و«ليلة من ألف ليلة وليلة» و«عريس لبنت السلطان»، بجانب مسلسلي «الزير سالم» و«سليمان الحلبي».
في منتصف سبعينيات القرن الماضي ألف مسلسل «عنترة» الذي أخرجه الأردني عباس أرناؤوط، وعند اختيار الممثلين اقترح الاستعانة بالفنانة سميرة عبدالعزيز من واقع مشاهدته له على خشبة المسرح القومي، في المقابل كانت هي تشاهد مسرحية «حفلة على الخازوق» لتقيم ما إذا كان بالإمكان عرضها على مسرح الدولة أم لا.
أبدت «سميرة» آنذاك انبهارها بـ«حفلة على الخازوق»، في حين رفضت دورها في «عنترة» لصغر حجمه، ودفعها المخرج إلى التحدث إلى «محفوظ» لحل المشكلة، لتطالبه بزيادة مساحة الدور إلا أنه رفض، واعدا إياها باختلاف الأمر إذا أرادت العمل معه، ووافقت على الفور.
وبمرور الأيام نشأت صداقة بينهما وتقاربت ظروفهما الخاصة إلى حد كبير وفق روايته، إلى أن وقع في حبها ووافقت على الزواج منه بعد أن عرض عليها الأمر، وأنجب منها ولدا وبنتا.
رغم حبه للسينما إلا أنه يكره الكتابة لها، لكن المخرج صلاح أبوسيف أقنعه بكتابة قصة ترتبط بفترة صدر الإسلام، حتى كان فيلم «القادسية» الذي أثار ضجة واسعة في بداية الثمانينيات رغم بعده عن الإسقاطات السياسية حسب قوله.
وبسبب الظروف الإنتاجية تعذر عرض الفيلم داخل مصر آنذاك ليُعرض أولا في العراق، ومع نشوب حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية الإيرانية)، وكتب أحد النقاد وقتها أن «محفوظ عبدالرحمن هو سبب الحرب بين الدولتين بسبب الفيلم».
في بداية التسعينيات خطرت له فكرة الكتابة عن حفر قناة السويس، إثر عثوره على مرجع يتحدث باستفاضة عن ذلك الأمر صدفة في أحد الأيام، حتى نشأت فكرة تأليف مسلسل «بوابة الحلواني» من تلك اللحظة، حتى فرغ منه عام 1991.
من الطريف هو أن عدد الحلقات التي كتبها آنذاك 24 فقط حسب قوله، وهو ما أثار استغراب الجهة الإنتاجية التي لم تصدق أن ذلك عملا دراميا، رغم ذلك لم يكن يريد عرضه في شهر رمضان حتى يستطيع الجمهور، وإن كان عدده قليلا، أن يتابعه بتركيز، حتى فوجئ بأن الرقابة ترفض ذلك أيضا لكن بحجة أنه «مسلسل كئيب».
قال القدر كلمته آنذاك إذ تعرضت الأعمال الدرامية المذاعة حينها إلى الهجوم الشديد، ليضطر مسؤول كبير، رفض «محفوظ» ذكر اسمه، طلب الاستعانة بمسلسل «بوابة الحلواني»، كان ذلك في 11 رمضان.
بعد النجاح الباهر لأجزاء «بوابة الحلواني» اجتمع مع مجموعة من الكتّاب بجانب حضور الفنان أحمد زكي للحديث عن بعض الشخصيات المؤثرة تاريخيا لإنتاج أعمال فنية عنهم، حتى جاءت فكرة فيلم «ناصر 56» رغم عدم توافق «محفوظ» مع نظام الرئيس جمال عبدالناصر حتى وفاته عام 1970، لكنه أُعجب به بعد أن قرأ عنه الكثير ودرس فترته وسافر إلى الخارج كذلك.
فكر حينها في كتابة سهرة تليفزيونية فقط، وهو ما تم تقديمه إلى مسؤولي مهرجان الإذاعة والتليفزيون على إنه «فيلم تسجيلي»، لكن بعد نجاحه الباهر استقبلته دور السينما.
بانتهاء «ناصر 56» حاول «محفوظ» الكتابة عن شخصية تؤرخ للقرن الـ20 قبل نهايته، وفكر في سعد زغلول وطلعت باشا حرب، إلى أن وجد في كوكب الشرق «أم كلثوم» غايته، لأنها عاشت في فترة زمنية طويلة معاصرة ثورة 1919 وتوفيت عام 1975.
للكتابة عنها اضطر إلى مقابلة بعض أفراد عائلتها بجانب من عاصروها وتعاملوا معها، لكنه لم استفاد منهم بقدر ضئيل، حتى لجأ إلى البحث عن كل ما تعلق عنها في الصحف، وأكمل بعض تفاصيلها من فكره الخاص من خلفيته القروية.
حقق مسلسل «أم كلثوم» نجاحا باهرا عقب عرضه في عام 1999، حتى كلما تواجد في مناسبة عامة يقدمه البعض على أنه «مؤلف أم كلثوم»، وهو ما دفعه بعد فترة من كره العمل حسب ما صرح به في برنامج «لازم نفهم»، لأن الأمر تكرر لأكثر من مرة.
بداية من 2002 وحتى العام الماضي جاء إنتاجه محدودا، فألف مسرحيتي «محاكمة السيد ميم» و«بلقيس»، ومسلسلي «إيزيس» و«اهل الهوا»، بجانب فيلم «حليم» آخر أعمال الفنان الراحل أحمد زكي، قبل أن يكتفي بالإشراف الدرامي على مسلسل «ساق البامبو».
وفي الفترة الأخيرة عكف على كتابة رواية تتناول البحث عن الآراء المختلفة عن الحاكم بأمر الله من خلال مجموعة من الوثائق، وكل وثيقة تستحوذ على فصل كامل حسب توضيحه.
في الآونة الأخيرة، أصابه تغير الأوضاع الفنية ببعض الإحباط إلى حد ما، موضحا أنه كتب، فيما يخص قناة السويس، بعد عزل الخديو إسماعيل من حكمه في تمهيد لكتابة الجزء الخامس من مسلسل «بوابة الحلواني»، إلا أن الجهة الإنتاجية طلبت منه لونا آخرا عندما عرض الأمر، لكنه على أهبة الاستعداد في مد السلسلة حتى الآن.
وفي مايو 2013 تعرض لوعكة صحية أجبرته على دخول العناية المركزة، نتيجة معاناته من التهاب الأعصاب، وخرج بعد أيام، ليصرح لـ«المصري اليوم» آنذاك: «اعتدت دخول المستشفيات».
وفي أيامه الأخيرة قبل أن يرحل ظهر اليوم، أعلنت الفنانة سميرة عبدالعزيز أنه يرقد في العناية المركزة بمستشفي «جلوبال»، مضيفةً، خلال تصريحها لـ«المصري اليوم»: «أصيب منذ عدة أيام بارتفاع في الضغط مما تسبب في حدوث جلطة نُقل على آثرها إلى المستشفى»، لتنتهي قصة الكاتب الكبير عن عمر يناهز 76 عاما.