لماذا نكره الثورة ؟!
(1)
لا أعرف حتى الآن لماذا اختار لي أبي اسم "جمال"، مع أنه ظل "يكره" جمال عبد الناصر حتى رحيله؟.. لم أقل "يعارضه"، لأن "الكراهية" شيء و"المعارضة" شيء آخر.
(2)
لن أكتب مقالاً في الذكريات، بل في ظاهرة "كراهية الثورات" التي تتجذر في تاريخنا الممتد، فالثورة "فعل مستهجن" في التاريخ الشعبي المصري، والعربي أيضا، فهي "زوبعة" و"فتنة" و"هوجة"، و"هرج ومرج"، و"حركة"، و"انقلاب"، ومؤامرة"، و"فوضى"… إلخ
(3)
يلمح بعض المفكرين إلى أن حالة "المركزية الشديدة" التي شكلت الجغرافيا والتاريخ في مصر، كرست في نفوسنا نزعة الاستقرار، والخوف من التغيير، والاطمئنان للثبات، والصبر على السائد والمسيطر مهما كان ظالماً وشديد الوطأة (اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش.. واصبر على جار السوء.. والباب اللي يجيلك منه الريح… إلخ)
(4)
لهذا ظل الفلاح المصري يحرث أرضه بنفس الطريقة والأداة (المحراث) لأكثر من 5 آلاف سنة دون تطوير، أو تفكير في جديد، حتى فرضت عليه الظروف "ماكينات" جاءته من بلاد خارج الحدود والتفكير!، هذا يعني أن "فعل الثورة" عاش مكروها ومنبوذا وطريداً في الوجدان الشعبي، وإذا حدث في فترات الظلم أن ظهر "ثائر" يواجه الظالم وينصر المظلوم، فإنه سرعان ما يتحول إلى "خارج عن القانون والهيئة الاجتماعية معا، برغم ما قد يثيره في النفوس من إعجاب، لكنه يبقى إعجابا سرياً يخشى البوح به، وقد لمسنا ذلك في الروايات الشفاهية عن الأبطال الشعبيين، حيث يختلط الإعجاب بالنكران، والاستعداد للحماية بإمكانية الوشاية، وهذه المشاعر تمتد من "علي الزيبق"، و"حسن المدابغي"، و"أدهم الشرقاوي" حتى "الحامبولي" الذي سمعت بأذني جانبا من الإعجاب والمحبة المستترة التي خصني بها بعض أهالي الأقصر.
(5)
مفهوم "الثورة" إذن لم يتطور في الوعي الشعبي المصري (وربما لدى كثير من السياسيين والحكام أيضا).. ربما لم تعد "الثورة" كما كانت مجرد "انحرافاً أو "خطيئة" في حق "البلاد والعباد"، وربما لم تعد "جريمة صريحة" في حق الحكام والأعراف والتقاليد" فقد حدث نوع من الانقسام بشأن "الخروج عن النظام"، لكن المؤكد أنها لم تتحول بعد إلى رؤية شرعية جديدة للحياة، وطريقة لتنظيم شؤون "الوطن" (بدلا من كلمة البلاد)، وإدارة حقوق وواجبات "المواطنين" (بدلا من كلمة العباد)… فالثورة لا تزال غريبة عن وجدان الحاكم والمحكوم معاً، والأخطر أن هناك خلطاً في فهمها وتفسيرها حسب مصلحة وثقافة كل طرف، وجماعة وأحيانا " كل فرد".
(6)
منذ 64 عاما والخلاف حول ثورة 23 يوليو يتجدد، وهو خلاف (حسب هذه الرؤية) لا يتعلق بتقييم الثورة وأهدافها وخطواتها التنفيذية، لكنه خلاف نفسي من فكرة الثورة نفسها، يتكرر كلما اتصل الحديث بسيرة أي ثورة، فهذا ما تعرضت له أيضا 25 يناير، و30 يونيو، وما تعرضت لها قبلهما ثورات مصرية كثيرة لم يحتفظ بها الوجدان الشعبي، مثل ثورة علي بك الكبير، وثورتي الحسينية الأولى والثانية، بل وثورتي القاهرة أيام الحملة الفرنسية، وثورات فرعية أخرى في البحيرة والصعيد ايام الحكم العثماني وسلطة بايات المماليك!
(7)
لا أكتب مقالي دفاعا عن ثورة في ذمة التاريخ، ولا دفاعا عن زعيم ترك الحكم منذ قرابة نصف قرن، ومازال البعض يتلذذ بأكل لحمه ميتاً، فقط أحاول أن أناقش معكم كيفية الانتقال من "النظرية النفسية" (الحب والكراهية) في النظر للثورات وللحكام، إلى "النظرية العقلية" التي تأخذ في الاعتبار تطور مفاهيم العصر وآليات الحكم، وخريطة الحقوق والواجبات التي جعلت الفرد "مواطناً قانونيا" وليس مجرد "رعية" يستخدمه الحاكم كما يستخدم المواشي مقابل كفالته وإطعامه!
(8)
أما لماذا كان أبي يكره عبد الناصر؟، وكيف انقلبت الكراهية إلى محبة بعد سنوات من رحيله، فهذه قصة أخرى لوقت آخر، أما الآن فلا تستكثروا على أنفسكم الاحتفال بالثورة (كل ثورة).. فما أحوجنا للثورات.
أيها الأخوة المواطنون .. كل عام وأنتم ثوار أحرار.